الإمساك بالحضارة السالفة

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 13/7/2020

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

لعل الإمساك بالحضارة العربية الإسلامية وإنجازاتها في كل فرع من فروع العلم والمعرفة عبر أربعة عشر قرنًا.. لعله الحبل الأول لتجميع الأقطار العربية للالتفاف حول مشروع عربي يكلأ بحمايته مصيرهم المشترك، هذا المصير الذي لا يختلف عاقل على أنه يجمع هذه الأقطار حتى وأن أختلف التوقيت المرسوم لكل منهم فرادى وفقًا للمشاريع الأربعة المعادية.. الإسرائيلية، والتركية، والإيرانية، والأمريكية.

عشت شخصيًا لعدة سنوات وأنا أطوف بجنبات هذه الحضارة الواسعة لأجمع موادها لوضع كتاب «الإسلام والعلم والحضارة» الذي صدر من شهور.. أيًّا ما اختلف البعض أو اتفق على الوحدة القومية، فإن أحدًا لن يختلف على وحدة اللغة، والتي بها نزل القرآن، وترجمت إليها الأناجيل والعهد القديم، وعلى وحدة الحضارة العربية الإسلامية، بل ومكانتها في تطور الحضارة الإنسانية بعامة، وتأثيرها في النهضة الأوروبية بخاصة.

قيمة هذه الحضارة التي ضربت في كل باب، ليست في التباكي على ما فات، وإنما في الامساك بخيوطها الكفيلة بالتجمع على مشروع عربي موحد.

لقد تجلت هذه الحضارة في الابداع وفي النقل، وفي العلوم والطبيعة، وفي الرياضيات والفلك، وفي الميكانيكا والهندسة، وأنجزت فيها وفي علوم الحياة والكيمياء والصيدلة والجيولوجيا والتعدين إنجازات مشهودة، وامتدت هذه الإنجازات إلى العلوم والكشوف الجغرافية، وإلى الملاحة البحرية وأجهزتها العلمية، وإلى الفكر والفلسفة الإسلامية، وصلتها الوثيقة بالعلم فضلاً عن صبغتها الدينية الروحية.. وإلى هذه الحضارة ترجع الخيوط الأولى لعلم الاجتماع، وقصب السبق في سن قوانين للحرب تكفل التخفيف من ويلاتها والالتزام بأصول إذا لم يكن من الحرب بد، ولم تخل إنجازاتها من الطب وتصنيف المدونات الطبية التي ظلت مرجعًا للعالم وللغرب حتى بداية عصر النهضة الذي يدين بالكثير إلى هذه الحضارة التي أسهمت في تكوين الفكر الأوروبي وفي النهضة الأوروبية، فضلاً عن الأندلس التي ظلت لقرون نموذجًا لهذه الحضارة وما تكفله وتحققه.

وظني أن التجمع العربي حول مشروع عربي لن يبدأ من الصفر، ولا حتى من أول السطر، ومفتاح ذلك يتمثل في فروع تلك الحضارة.. فالعالم العربي عامر اليوم بعلماء ومفكرين وكتاب في كل فرع من هذه الفروع، وحافل أيضًا بالمجلات والمصنفات النوعية التي تجمع هؤلاء وأولاء ــ على اختلاف الاقطار ــ على كل فرع من هذه الفروع.. فكل زمرة من هذه الزمر فيها المصري والجزائري والسوري والسعودي واللبناني والمغربي والفلسطيني والسوداني والتونسي والعماني والأردني والليبي والإماراتي والبحريني واليمنى، بل ولهم امتدادات في كل من تركيا وإيران، وهذه الزمر ذخيرة حية جاهزة تحمل فكرها ومرجعياتها وعقلها، ولا تنقصها الإرادة.

هذه الإرادة التي تكفل تقدمها خطوة للأمام لصياغة أو على الأقل لجمع عناصر مشروع عربي موحد يقي العالم العربي من الأخطار الجسيمة المحدقة به، فضلاً عن إنماء ثرواته الاقتصادية.. المادية والبشرية، وافساح المجال ليأخذ هذا العالم العربي مكانه اللائق في عالم يتكتل في تجمعات وتكاملات، حتى يكاد لا يوجد فيه مكان لائق للكيانات الصغرى.

ماذا يمكن أن يحقق علماء الاقتصاد إذا أعطوا جانبًا من جهودهم للحث بل ولتحقيق التكامل الاقتصادي.. أليس في هذا التكامل قوة؟! ألم تنجح فيه أوروبا رغم تعدد القوميات وتعدد اللغات، فكيف بعالم توحده اللغة ويوحده المصير المشترك، فضلاً عن العوامل القومية التي لن يختلف أحد على التمازج الذي حدث وتراكب عبر قرون، وأنشأ قرابات دم وقرابات أرحام، وقرابات جوار، وقرابات أنساب وأواصر وعلاقات.

ألم يتجمع هذا العالم سلفًا حول عبد الوهاب وأم كلثوم، وحول نجوم الفنون الذين بزغوا تباعًا في أقطاره.. ألم يتجمع هذا العالم حول قراءة أعمال العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم مثلما تجمع حول أشعار الجواهري وبدر شاكر السياب ومحمود درويش وأبي القاسم الشابي وصفي الدين الحلي، وقل مثل هذا في عالم السينما والمسرح والإذاعة، وفي الفنون الشعبية، وفيها تجلت الجسور التي ربطت هذا العالم عبر القرون، وبدا فيها اتصال وتواصل وامتزاج وتفاعل وانصهار لم يصنعه قرار، وإنما صنعته أعمال وبطولات ساهمت فيها هذه الأقطار.. فسيرة عنترة بن شداد ضاربة في العصر الجاهلي والمعلقات ممتدة إلى ما بعد ظهـور الإسلام.

ومع أن حيز وقائعها كان في شبه الجزيرة العربية، فإنك تلمح آثارها وعلامات الانصهار في سيرة ذات الهمة التي شبهت بطلها «الصحصاح» بعنترة بن شداد، وكذلك سيرة حمزة البهلوان، وفي كثير من السير الشعبية التي بدا تأثرها بسيرة عنترة بن شداد في التشبيهات وفى طريقة رسم الأبطال ووصفهم وفي تقليد الأحداث.

تجد المشكلة الاجتماعية الحاضرة في سيرة عنترة، حاضرة أيضا وشاغلة للمجتمع العربي هنا وهناك في كثير من السير والموروث الشعبي بعامة.. وكيف يرجع الانتباه إلى عيوب الرق والتفرقة العنصرية إلى سيرة بلال ابن رباح وسلمان الفارسي وعبادة بن الصامت في الإسلام.. عن تأثير سيرة الأميرة ذات الهمة، كتب الدكتور فؤاد حسنين: «وقد أثرت تأثيرًا كبيرًا في العالم الإسلامي حتى أن الأديب التركي ابتدع قصة أخرى تستمد من قصصنا العربية خيالها وبعض وقائعها، وهي التي تعرف باسم سيد البطال».. بل إن سيرة ذات الهمة تعكس صراع الأمة العربية بكاملها تجاه الغزو الأجنبي وأمام دولة الروم، أما سيرة الظاهر بيبرس فتكاد أن تكون امتدادا لسيرة الأميرة ذات الهمة من الناحية الزمنية، وفيها تلمح كيف اتسع في السيرة مدلول كلمة «عربي» اتساعًا ضخما يشمل التركيب الاجتماعي السائد في المنطقة كلها التي تجمعها مصالح مشتركـة ويهددها خطر واحد وتدين كلها بتعاطف من عناصره: الدين واللغة والامتزاج الذي انعكس في إحساس حاضر بالتوحد، تجد الأبطال والشخصيات تدور بين الأكراد والأيوبيين، وبلاد فارس وإيران، وبعضهم من الأتراك كالظاهر بيبرس، وآخرون من أبناء سيناء كشيحة الذي يعود نسبه إلى غزة، وبعضهم ينبع من حوارى القاهرة، وآخرون من الشام ومن المغرب ومن طنجة بمراكش.

حين تبدأ أحداث سيرة الظاهر بيبرس الخروج من مصر إلى المحيط العربي كله، تراها تتجه منذ المناوشات الأولى للحروب الصليبية إلى الاتجاه القومي في مواجهة هذا الغزو الصليبي، وتنعكس بذلك عناصر التوحد بين أبناء المنطقة العربية، وتجعل من هذه المنطقة مجالاً واحدًا تتحرك فيه روح المجتمع.

لم أقصد بهذه الخواطر أن أرسم مشروعًا عربيًّا، فهذه مهمة جليلة تحتاج إلى تساند الجهود والخبرات، وإلى عزم الإرادات، وإنما قصدت فقط أن أرفع إصبعي لأشير إلى معالم تشجع الحكومات والخبراء على التقدم بلا وجل ولا تردد لتهيئة الظروف التي تجعل الحلم في مشروع عربي موحد، واقعًا يجب أن تلتف حوله كل العقول والخبرات والإرادات.

 

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى