اتساق العقل والمنطق في الإسلام

اتساق العقل والمنطق في الإسلام

نشر بجريدة الشروق الخميس 13 / 5 / 2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

موقف الإسلام إزاء المنطق واضح ومستقيم، فالقرآن الحكيم صريح في مطالبة الإنسان بالنظر والتمييز ومحاسبته على تعطيل عقله وضلال تفكيره، وهذا يتسق مع المنطق الذي يجمع علم الأصول والقواعد التي يُسْتعان بها على تصحيح النظر والتمييز.

على أنه يجب التفرقة بين شيئين يختلفان كل الاختلاف : المنطق، والجدل أو الخطاب الإقناعي . فإنهما يختلفان ويتباعدان حتى ينتهيا إلى نقيضين.

فالمنطق بحث عن « الحقيقة » عن طريق النظر المستقيم والتمييز الصحيح.

والجدل بحث عن « الغلبة » والإلزام بالحجة، قد يرمى إلى الكسب والدفاع عن مصلحة، وقد يتحرى مجرد المسابقة للفوز والإقحام.

وقد ظهر المنطق والجدل بين اليونان الأقدمين، فأكبروا المنطق ونظروا إلى الجدل نظرة اشتباه وإنكار.

وما من أمة فتحت باب الجدل أو ابتليت به، وسلمت من جرائره. وقد صُكت الأمثال عن الجدل « البيزنطى » في طول اللجاجة وسوء العاقبة، وكذلك بنو إسرائيل والكتبة والفريسيون الذين ضرب بهم المثل في الجدل واختلاق الحيل والمغالطات والتلاعب بالألفاظ ومع أنبيائهم، ولجأوا إلى ذلك مع السيد المسيح، وكان لهذه الآفة صرعاها في كل وقت.

*             *           *

ويؤخذ من أخبار الأمم التي امتحنت بالمنازعات الجدلية، أن هذه الآفة مرض اجتماعي تتشابه أعراضه في الأمم !

ولما انتقلت هذه الآفة إلى الأمم الإسلامية، فشت بأعراضها ولمس الخاصة والعامة أضرارها الوبيلة في العلم والدين، وتشاءم بها المسلمون تشاؤمًا أشد من تشاؤم اليونان بالسفسطائيين وتشاؤم المسيحيين الأولين بالكتبة والفريسيين.

وفي رائعته التفكير فريضة إسلامية، مضى الأستاذ العقاد يضرب أمثلة وقصصًا للجدل ومثالبه، ودلالتها في كل الأحوال على سوء الأثر وسوء التقدير، والذي أصيبت به الأمة الإسلامية باسم المنطق المزيف، وعانت منه محنةً دعت إلى تحريم الاشتغال بالجدل سدًّا للذرائع واتقاءً للفرقة وتبلبل الأذهان وفساد القلوب واستشراء المشكلات.

ولم يعترض علماء الإسلام على حرية العقول أو على المنطق الصحيح، وكل ما ورد عنهم في شأن الجدل منع اللجاجة التي لمسوا شرورها وتحققوا من جريرتها !

وعلى كثرة الذين عرضوا لهذا الموضوع ـ لا تجد واحدًا منهم قصد بالمنع أو التحريم شيئًا غير هذا الجدل العقيم الذي يبلبل ويصرف العقل عن الفهم.

وأكبر ثلاثة أفاضوا في بحث هذه المسألة من الأئمة المجتهدين : الغزالي، وابن تيمية، وجلال الدين السيوطي.. تتفق آراؤهم على تنوعها على انصراف التحريم إلى هذا الجدل العقيم الضار، وتعنى بتحرير العقل من القيود التي تعوقه عن النظر السليم، ولا تطلقه على أهوائه كما فعل المقلدون من عُبَّاد الألفاظ وأصحاب اللجاجة بالمصطلحات الموضوعة !

*        *        *

ولا يخفي أن المسلمين على عقيدة واحدة فيما يرجع إلى أوامر القرآن ونواهيه، ومتى صرح الكتاب المبين بوجوب التعويل على العقل، أو فوض للإنسان حق التعويل على عقله، فليس لمسلم أن ينازع هذا الحق أو في ذلك الواجب .

على أنه ليس بحجة على الإسلام أن تخالف فرقة بين المسلمين سائر الفرق في موضوع العقل والمنطق، فإن الديانات لم تخل قط من أمثال هذا الخلاف على وجه من الوجوه، ولكن الواقع المقرر في هذه المسألة بذاتها ـ فيما يختم به الأستاذ العقاد هذا الفصل ـ أن حرية العقل لا يقيدها في الإسلام حكم مأثور على مذهب راجح أو على مذهب مرجوح.

الفلسفة

صارت الفلسفة في المصطلحات الحديثة أنواعًا : فلسفة التاريخ، وفلسفة اللغة، وفلسفة الأخلاق، وفلسفة الرياضة، وغيرها.. ويراد بها البحث في النظريات والأفكار التي تقوم عليها تلك العلوم، وتبين وجهتها وغايتها..

غير أن الفلسفة التي يعنيها الأستاذ العقاد في مؤلفه عن فريضة التفكير في الإسلام، أعم من هذه الفلسفات جميعًا لأنها قد تشملها من وجهة النظر في الأصول وتجاوزها إلى البحث فيما وراء الحقائق المحسوسة، مما يسمى أحيانًا بالبحث فيما وراء الطبيعة أو البحث في كنه الوجود كله على التعميم.

وقد شاعت فلسفة ما وراء الطبيعة في بعض الأمم القديمة، وقلّ في أمم أخرى، ولم يكن ذلك راجعًا إلى درجات الحضارة، وأظهر مثال لذلك أن الهند ومصر وبلاد ما بين النهرين وبلاد الدولة الرومانية ـ كانت على درجة عالية من الحضارة وحظ وافر من العلوم والصناعات، ومع ذلك لم تتسع لشيوع الفلسفة كما اتسعت لها بلاد ـ كاليونان قبيل مولد المسيح ـ لم تبلغ مبلغها من الحضارة والعلوم.

وتفسير ذلك أن الدول الكبيرة التي تقوم عادة على الأنهار الكبيرة ـ كمصر وبلاد بين النهرين والهند ـ تقوم فيها سلطة دينية قوية تستأثر بمباحث العقيدة ومباحث ما وراء الطبيعة ولا تسمح لأحد بأن يزاحمها في المعارف التي تتعلق بالأرباب وأسرار الخلق وأصول الحياة أو أصول الوجود كله على التعميم، فيقل أو يمتنع فيها ظهور الفلسفة ونبوغ الفلاسفة.

وقد فسر الإسلام هذا الفارق بين الأمم، بعنايته العامة بالفلسفة على طريقته العملية حين قامت الدولة فيه بغير كهانة تستأثر بالأسرار، ومن ثم كانت دولة الإسلام أرحب صدرًا وأسمح فكرًا مع الفلسفة على عمومها ومع الفلسفة اليونانية في جملتها، بل ومن بلاد اليونان التي نشأت فيها.

ويكفيك دلالةً على ذلك ما حاق بثالوث الفلسفة الأكبر وأتباعهم فيثاغورث وزينون في بلاد اليونان، فسقراط قد قُضى عليه بالموت، وأفلاطون بيع في سوق العبيد، وأرسطو نجا بنفسه من أثينا وقيل إنه ألقى بنفسه في البحر بعد أن رماه أحد كهنتها بالإلحاد، أما فيثاغورث فقد مات قتيلاً، وزينون بخع نفسه ( قتلها غمًّا ) لأن الآلهة أمرته بذلك كما قال لبعض تلاميذه.

بينما لم يُصب أحد بسوء أو مكروه ممن اشتغلوا بالفلسفة في البلاد الإسلامية، ولم يكن ما مس بعضهم بسبب الفلسفة وإنما لأسباب أخرى، كما حدث مع الشيخ الرئيس ابن سينا الذي دخل السجن لا لرأى وإنما حين أراد أمير همدان أن يستبقيه إلى جواره حينما أراد أن يلحق بأمير أصفهان علاء الدولة ابن كاكويه.

ولم تكن نكبة ابن رشد بسبب الفلسفة، وإنما لأنه لقب الخليفة أبا جعفر المنصور في بعض كتبه بلقب ملك البربر، إلى آخر ما قيل عن سبب ضغن الخليفة عليه. وقد اشتغل بالفلسفة من أعلام هذه الطبقة أعلام من طراز الكندى والفارابى والرازى وآخرين، ولم يلحق بأحدهم سوء من جراء تفكيره، ولم يصدهم أحد عن البحث والكتابة.

ومن الثابت أيضًا أن روح الإسلام تجلت في سعة موقفه من الفلاسفة، فإن كبارهم قد خاضوا غمار الأفكار الأجنبية بين يونانية وهندية وفارسية، وعرضوا لكل مشكلة من مشاكل العقل والإيمان، وتكلموا عن وجود الله ووجود العالم ووجود النفس، ومنهم من ترجم أرسطو وأفلاطون، وكلهم كالفارابى وابن سينا وابن رشد قد اطلع على قسط وافر من فلسفة أفلاطون وأرسطو وطائفة من آراء الآخرين. ونرى الفارابى الملقب بالمعلم الثانى يبرئ أرسطو ـ المعلم الأول ـ من إنكار خلق العالم، ويفسر آراءه على وجه ارتضاه المؤمنون بالله والنبوات، فالله عنده هو « السبب الأول »، والسبب الأول « واجب الوجود » وهذا السبب الأول واحد لا يتكرر، بسيط لا يتغير، وهو علة الوجود وكل موجود.

وموقف الإسلام اليوم، كموقفه بأمس، لا يضيق بالفلسفة لأنها تفكير في حقائق الأشياء، ولأن التفكير في السموات والأرض من فرائضه المتواترة، ولكن قد يظهر في المذاهب الفلسفية ما يضيق هو بالإسلام ويخالفه، بيد أنه لا تثريب على العقيدة أن يخالفها بعض العقول، فالعقائد لا تُطالب بموافقة كل عقل، وحسبها أنها لا تصد عقلاً من العقول عن سواه.

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى