أفضلية إعادة التفاوض عن الفسخ في العقود الاستثمارية ( رؤية عملية وقانونية)

المستشار الدكتور/ معتز عفيفي

نائب رئيس هيئة قضايا الدولة بجمهورية مصر العربية

الخبير القانوني بحكومة دبي الإمارات العربية المتحدة

عضو اللجنة الاستشارية لمركز الإمارات للتحكيم الرياضي

 

ناديت منذ عام 2020 وخاصة بعد احداث جائحة كوفيد 2020 وما ترتب عليها من آثار اقتصادية بالغة الأثر على المجتمع، بضرورة اتباع نظام قانوني مرن داخل الجهات والمؤسسات والشركات الحكومية والخاصة، وتبلور هذا الفكر في مؤلفي الصادر عام 2023 بعنوان” المرونة والقانون”[1].

إن الإنسان ذلك المخلوق العجيب الدال على بديع صُنع الله وكماله ووحدانيته، مستعداً دوماً للتكيف مع المتغيرات والظروف الاجتماعية، حيث كلما هبت رياح التغيير على المجتمع، وظهرت المتغيرات الاجتماعية، واجهها الإنسان بمزيد من الأدوات التي يستطيع أن يحقق بها التكيف مع تلك المستجدات والمتغيرات.

إن التطور اليوم اصبح مخيفاً على نحو يولد الذعر والخوف من عدم قدرة الإنسان على احتمال ذلك التطور والمتغيرات الحادثة، فيسقط في دائرة المتغيرات دون تكيف، لذلك اصبح على الانسان ان يفكر في مسألة هامة وهي “المرونة” L’Agilité، فهي القوة الضاربة للغد والمستقبل لمواجهة المتغيرات الاجتماعية من حروب وأوباء وتكنولوجيا وذكاء اصطناعي فائق التقدم.

لقد أثرت الظروف العالمية الحالية على العديد من الشركات،  حيث جائحة كوفيد19 التي مازال آثارها قائم لم ينتهي، حرب روسيا أوكرانيا، تضخم عالمي وارتفاع في أسعار الفوائد، الصراع الاسرائيلي الفلسطيني وتأثيره على الملاحة في البحر الأحمر، حيث تعطلت سلاسل التوريدات، ونقص المواد والعمالة، وأزمات الطاقة المتكررة، كل ذلك كان له تأثير كبير على الشركات التي بدأت تفكر في فسخ العلاقة التعاقدية مع الجهات الحكومية أو مع شركات أخرى.

حقيقة إن العديد من العوامل المؤثرة تقع خارج نطاق السيطرة المباشرة للشركات، فما هي الخطوات القانونية والعملية التي يمكنك اتخاذها،بصفتك المستشار المالي/ التعاقدي/القانوني للشركة الخاصة أو الجهة الحكومية؟!!

من وجهة نظري يجب أن يتسع تقييمك لتأثير الظروف الحالية واختيار الحل الأفضل على العديد من الاعتبارات التجارية والقانونية، التي تدور حول خيارين هل  العقود أو أحكام القانون تسمح من الاساس بإعادة التفاوض والمرونة فيه، وإذا سمحت هل هو الخيار الأفضل، أم أن فسخ العقد هو القرار السليم وذلك بفرض ان اسباب الإخلال في تنفيذ الالتزامات ظهرت إلى السطح في العقد الاستثماري، حيث بدأت الشركة عاجزة عن استكمال التزاماتها ، فلا يوجد اكمال لبناء الانشاءات في عقود BOT، أو أن الشيكات بدأت ترتجع من البنوك، أو أن شركات التعهيد بدأت تتوقف عن تقديم الخدمات المعهودة إليها تقديمها للجمهور ، أو ان العقود لم يتم استكمال إجراءاتها بتقديم الضمانات الواجب تقديمها، أو ان الشركة لم توفر ما اشترطه الجهة الحكومية عليها في العقد من عمال أو تصميمات معينة أو اي اشتراطات أخرى، هنا نكون أمام خيارين أما إعادة التفاوض وتجنب النزاعات أو تخفيفها أو فسخ العقد الاستثماري، ولكن كما ذكرنا أن الاختيار الصحيح يجب ان يخضع لعدة اعتبارات تجارية وقانونية تضعها نصب عينيك!!.

أولاً: الاعتبارات التجارية.

يجب عليك أن تضع في اعتبارك عدة مسائل هامة تجارية عند اختيار الحل الأفضل في التعامل مع إخلال المستثمر في تنفيذ الالتزامات بين إعادة التفاوض أو فسخ العقد.

         هل فسخ العقد قرار عملي وسوف يعود بالفائدة على الشركة؟ قد يعتمد هذا على أي مرحلة يتم فيها تنفيذ العقد توريدات أو انشاءات وعوامل أخرى مثل أي التزامات لطرف ثالث قد تتأثر بإنهاء العقد. عندما ينتهك أحد الطرفين أي شرط بالعقد الانشائي، ومن مصلحة الجهة استكمال الانشاءات بدلاً من ايقاف المشروع والالتجاء الى فسخ العقد ويمكن ان يتطور إلى نزاع قضائي، ولكن  إذا كان الإخلال خطيراً هنا يفضل فسخ العقد ورفع دعوى للحصول على تعويض مالي غير محدود حيث سيدخل فيها كافة التعويضات والإيراد والكسب الفائت والاضرار المادية أن وجدت، حيث باب التعويضات مفتوح على مصراعية شرط الاثبات والمنطقية.

         هل هناك حلول بديلة في العقد الاستثماري؟ هنا نفترض مهارة القانوني الذي تولي صياغة العقد الاستثماري وافترض حدوث ظروف ومتغيرات قد تؤثر على تنفيذ العقد، فقام باستدعاء المستشار المالي والاستثماري لكي يتفقوا جميعاً على النص في العقد على استراتيجيات بديلة توفر المرونة التعاقدية و/أو المساعدة التجارية، و تسمى هذه البنود بالشروط التلقائية لإعادة التفاوض العقدي[2] كونها تسمح فقط بمراجعة آلية ديناميكية لكمية الالتزام أو تعديل السعر وفق مؤشر سعري محدد مسبقاً عند إبرام العقد، حيث بحدوث الظروف الجديدة يُمنع المتعاقدين من التدخل في العقد، حيث تُعدل الالتزامات آلياً وفق آلية معتمدة مسبقة عند إبرام العقد لمعالجة التغيير في الظروف إثناء مرحلة تنفيذ العقد، وتشمل هذه البنود (على سبيل المثال لا الحصر) شروط تعديل الأسعار، بنود التغيير الكمي. وهناك شروط شبه تلقائية لإعادة التفاوض العقدي وتختلف عن الأولى كونها لا يتم تفعيلها تلقائياً بل تحتاج إلى تفعيل من المستفيد كما أنه لا توجد مؤشرات كمية أو سعرية تم إعدادها مسبقة في العقد، ومن أمثلتها شرط العرض المنافس اثناء تنفيذ العقد حيث يسمح للجهة الحكومية بطلب التفاوض لتعديل العقد بتقليل الاسعار على اساس وجود شركة منافسة في نفس ظروف العقد بأسعار أقل.

         هل شركتك أو الجهة الحكومية التي “سعادتك” مستشار قانوني لها مستعدة  لعواقب فسخ العقد؟ حيث هناك عدة اعتبارات هنا يجب أن نضعها في الاعتبار،  هل تم العثور على مقاول/مورد/عميل بديل وجاهز لضمان الانتقال السلس؟ هل فكرت في تأثير إنهاء العقد على العلاقات التجارية الأخرى أو أصحاب المصلحة، أو حتى على الطرف المراد فسخ العقد معه (إذا كان لديك مشاريع أو عقود أخرى جارية مع نفس الطرف)؟ حيث قد يؤثر الإنهاء على المشاريع والعقود الأخرى لذلك الشخص إذ قد يطلب فسخ هذه العقود أيضاً، هل تم الإخطار بإنهاء العقد لدى كامل شركتك؟ بمعنى هل وصل علم كافة الموظفين المعنين بالتعامل مع المشروع بأن الشركة سوف تنهي العقد، وهذا الأمر من الخطورة لأنه إذا استمر جزء من الموظفين في المراسلة أو المشاركة أو التعامل مع الطرف الذي سوف يتم فسخ العقد معه، بينما الجزء الآخر من الموظفين يسعى إلى الفسخ وانهاء العقد، هنا يفسر تصرفات الجزء الأول من الموظفين الذين مازالوا يراسلون ويعملون ويشاركوا مع الطرف الآخر تأكيد على استمرار العقد، حالة انفصام في الشخصية بين موظفي الشركة!! تؤدي إلى تأكيد العقد واستمراره مع الطرف المراد فسخ العقد معه.

ثانياً: الاعتبارات القانونية.

إلى جانب الاعتبارات التجارية، يوجد العديد من الاعتبارات القانونية التي تؤثر على قرار تفضيل إعادة التفاوض أو فسخ العقد الاستثماري.

         لابد أن يكون هناك أساس قانوني صحيح لفسخ العقد، وإلا فالتفاوض أفضل!! لذلك ينبغي دراسة العقد من الناحية القانونية وجميع الظروف ذات الصلة، بعناية للتأكد من تنفيذ الفسخ بشكل صحيح وقانوني، ولتجنب أو تقليل مخاطر الدعاوى المتقابلة من الطرف الأخر الذي تم فسخ عقده، ويجب أن يكون هناك تعاون تام من جميع موظفي الشركة المعنيين بالمشروع ولا يقومون بإخفاء أية أوراق أو مستندات أو وقائع على المستشار القانوني الذي يتولى دراسة الاساس القانوني لفسخ العقد، حتى يعطي الرأي القانوني السليم في إعادة التفاوض أو السير في فسخ العقد.

         ما هو نوع إنهاء العقد المتاح/المناسب؟  هل الشرط الفاسخ الصريح في العقد أو فسخ العقد بإرادة منفردة أو باتفاق الاطراف أو بالالتجاء إلى المحكمة، هل تم تطبيق كافة الأحكام المسبقة قبل فسخ العقد ومراعاة المدد التي نص عليها العقد، من حيث توجيه إنذرات خلال مدد معينة في حال الإخلال بالالتزامات، هل تم مراعاة ان تم ارسال الإنذارات إلى عنوان المراسلة الصحيح في العقد، هل تم التأكد من وصول المراسلة إلى الشركة، لذلك دوماً ننصح أن يدون بالعقد شرط متعلق بالمراسلات وكيفية علم الوصول بها، حيث يكتب على سبيل المثال …أنه مجرد ارسال المراسلة إلى عنوان الشركة عبر البريد الالكتروني أو عنوان الشركة الواقعي فأن المراسلة تكون في حكم وصولها إلى الشركة، بغض النظر عما إذا كان المعني فتح الإيميل من عدمه، مجرد الإرسال يعتبر وصولاً حكماً وذلك باتفاق الطرفين.

         هل حدث إخلال حقيقي للالتزامات؟ هذا أمر بالغ الأهمية. في بعض الأحيان قد يكون من الواضح حدوث خل عقدي محدد أو حدث قوة قاهرة أو ظروف طارئة، وفي حالات أخرى قد يحدث خلل ولكن قد يكون غير مهم أو يمكن علاجه بسهولة، هنا بكل تأكيد يفضل إعادة التفاوض عن فسخ العقد.

         متى وقع حدث الإخلال العقدي؟  هذا سؤال زمني أو وقتي!! ويعد من الأسئلة الحاسمة، لأنه  اعتماداً على أحكام العقد المراد فسخه، قد لا يكون لدى الطرف وقت طويل لممارسة حق الفسخ، وقد يترتب على المراوغة أو التأخير في الفسخ، للأسف الشديد تأكيد العقد وضياع الحق في فسخه. وأيضاً مسألة وقت الإخلال يترتب عليها بحث مسألة تقادم الدعاوى العقدية التي تؤثر على المطالبة، حيث قد تكوت الدعوى سقطت بالتقادم، هنا – ورغم ان الدفع بالتقادم ليس من النظام العام ويجب أن يثار امام المحكمة من الخصم صاحب المصلحة- يفضل التفاوض عن فسخ العقد.

         هل تم تقديم إشعار الفسخ بشكل صحيح؟ في جميع الحالات سيكون من الضروري إرسال إشعار الفسخ إلى المتعاقد، إن الإشعارات القانونية هي حقل ألغام محتمل، حيث يجب قراءة أي شرط لإنهاء العقد بطريقة صحيحة وجميع الأحكام ذات الصلة وشروط الإشعار ضمن العقد بالكامل وبالتزامن مع بعضها البعض. وتتضمن الأسئلة التي يجب مراعاتها (على سبيل المثال لا الحصر) ما نوع (أنواع) الإشعارات المطلوبة؟ ما هي مدة الإشعار المطلوبة وكيف يتم حساب فترة الإشعار؟ هل هناك نموذج مطلوب للإشعار بالعقد؟ ومن وجهة نظري أفضل أن يتضمن العقد نماذج لإشعار الإخلال والفسخ وأن يتم الالتزام بها من الطرفين ،وهل يوضح العقد احتساب أيام الإشعارات وفق  أيام العمل الرسمية أو أيام التقويم المتضمنة الإجازات الرسمية.

ثالثاً : استراتيجية أو منهج البحث العملي في ضوء الاعتبارات التجارية والقانونية.

         يجب عليك في البداية أن تبدأ بمراجعة لجميع العقود الرئيسية بما فيها الملاحق لتحديد هل تسمح العقود (والعلاقات التجارية) بالمرونة والقدرة على إعادة التفاوض للتغلب على الظروف الجديدة ، وأين هي نقاط القوة ونقاط الضعف لدى شركتك. وعندما تجد أن نقاط الضعف غلبت نقاط القوة هنا يجب عليك التفكير في تعليق إنهاء العقد والحديث مع المعنيين بالشركة عن إعادة التفاوض.

         التأكد من وجود أي أحكام تتعلق بالقوة القاهرة  في العقد والتي قد تعفي طرفاً أو أكثر من الأداء التعاقدي، حيث يجب على أي شركة ترغب في استدعاء القوة القاهرة (أو التأكد من صحة أي مطالبة تتعلق بالقوة القاهرة ضدها) أن تراجع احكام العقد بشأن القوة القاهرة وأيضاً أحكام القانون.

         مراجعة عقود التأمين التي قد تؤثر عليها حالة القوة القاهرة.

         التأكد من وجود أحكام تعاقدية قد توفر المرونة أو المساعدة التجارية. وقد تشمل هذه البنود (على سبيل المثال لا الحصر) شروط تعديل الأسعار، بنود تغيير الكميات، شرط العرض المنافس اثناء تنفيذ العقد.

         مراجعة كافة الالتزامات التعاقدية والتزامات الطرف الثالث، حيث احياناً – وخاصة في عقود BOT– يوجد اتفاق تمويل العقد من طرف ثالث (بنك/ مصرف) ومن ثم يجب ان تراجع تلك الاتفاقيات التي قد تؤثر على قرارك بإعادة التفاوض أو فسخ العقد.

         مراجعة جميع الضمانات البنكية أو ضمانات تنفيذ الأداء، حيث قد يكون الضمان البنكي انقضي ولم يجدد، ولم تطالب الشركة بتجديده، وهذه كارثة تؤثر في قرارك بالتأكيد.

         يجب بحث شروط تقييد/استبعاد المسؤولية العقدية، حيث قد تكون شركتك قد اعفت المتعاقد من المسؤولية في بعض الالتزامات، فأن هذا بالتأكيد سوف يؤثر على قرارك بالفسخ أو إعادة التفاوض.

         يجب الاحتفاظ بأصول العقود والمستندات العقدية والإشعارات وسجلات واضحة ومسار ورقي لإثبات حقيقة وظروف أي إخلال بالالتزامات أو حدث آخر يؤدي إلى الحق في الفسخ.

         حافظ على قنوات اتصال مفتوحة مع كافة الموظفين وابلاغهم بأن هناك ” نية وشيكة لفسخ العقد” لذلك يجب الحظر في المراسلات أو المشاركة مع المتعاقد الذي سوف يفسخ عقده.

         يجب التحقق مما إذا كان العقد ذو الصلة يحتوي على أي أحكام إلزامية لتسوية المنازعات، مثل التسوية أو التوفيق أو التفاوض على مستوى معين في الشركتين  حيث يجب قبل اتخذا قرارك معرفة هل هذه الاحكام إلزامية في حق الاطراف من عدمه، وهل تم تطبيقها على ذات أحكام الشرط الموجود بالعقد؟!.

         ينبغي اتخاذ تدابير للتعامل مع الآثار التجارية والقانونية لفسخ العقد. على سبيل المثال، ينبغي وضع ترتيبات بديلة لتقليل تعطيل المشاريع، وينبغي اتخاذ الترتيبات اللازمة لضمان الامتثال لأية أحكام أو التزامات تظل سارية بعد الإنهاء (مثل ما يتعلق بالمعلومات السرية، أو حيازة أو استخدام الملكية الفكرية للطرف المقابل أو فك رهن عقارات أو انهاء اتفاقيات أو نقل تراخيص، أو سداد رسوم لصالح الجهات الحكومية).

         يجب على المستشار القانوني وفريقه بالشركة أن يتولى إعداد وإصدار أي إشعارات ضرورية نيابة عن باقي الموظفين بالشركة، أو على الأقل مراجعة أي اشعارات في مرحلة ما قبل الفسخ أو بعدها لتقليل مخاطر الصياغة أو القنابل الموقوتة في صياغات الموظفين الآخرين بالشركة.

 

 



[1] – د/ معتز عفيفي ، المرونة والقانون، دار النهضة العربية، طبعة 2023.

[2] – د/علي حسن دويح، الإلتزام بإعادة التفاوض في تكوين العقد المعدل،مجلة جامعة الامام الصادق القانونية،العدد الثالث يونيو 2022.

أشرف زهران

صحفي مصري، حاصل على بكالريوس إعلام، ومحرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين، ومكتب النقيب،
زر الذهاب إلى الأعلى