من تراب الطريق (1167)

من تراب الطريق (1167)

نشر بجريدة المال الأحد 29/8/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

الهوية والعنف !

عنوان هذا العمود ليس من عندي، وإنما هو عنوان لكتاب أصدرته سلسلة « عالم المعرفة » في عددها 352 في يونيو 2008 .. يتحدث عن وهم المصير الحتمي، لفيلسوف واقتصادي هندي يدعى أمارتيا صن، من مواليد دكا ( عاصمة بنجلاديش الآن )، وصاحب عديد من الشهادات العلمية من جامعات هندية وبنجلاديشية وآخرها الماجستير 1956 ثم الدكتوراه 1959 من جامعة كمبردج الإنجليزية، وقام ويقوم بالتدريس في عدة جامعات آخرها جامعة هارفارد الأمريكية، وترجمت كتبه إلى أكثر من ثلاثين لغة، منها هذا الكتاب الذي ترجمته إلى العربية المترجمة المصرية الأستاذة الأديبة سحر توفيق .

تجربة المؤلف الأولى مع العنف، كانت في الحرب التي اندلعت في شبه القارة الهندية بين المسلمين والهندوس في أربعينيات القرن الماضي، وعاين بنفسه الضحايا في هذا الصراع الدامي من العمال والفقراء وعائلاتهم، فتولد لديه احتجاج على هذا العنف قاده التأمل فيه إلى خروج بأن ما يدعمه ويشعله هو الانحصار فيما يسميه « وهم » الهوية المتفردة .. فهذ الانحصار هو الذي يقود إلى التعصب ومن أمراضه العنف والعدوان والإرهاب . هذا الانحصار ضد طبائع الشخصية ذاتها . فــلا توجـد شخصية ذات هوية « وحيدة » أو « منفردة » أو « متفردة » .. الدليل على ذلك أن « هويات » الشخص ـــ أي شخص ـــ تتعدد بالضرورة بتعدد انتماءاته العرقية، والطائفية، والحزبية، والمذهبية، والإقليمية أو المحلية، وبتنوع ثقافاته ومعارفه، وبتنوع أعماله وأنشطته .. بل وبتنوع ما يحبه وما يكرهه في رياضته وفي طعامه وشرابه . ما بين نباتي مثلا وغير نباتي . فالأمريكي مثلا قد يكون أمريكيا بالميلاد، أو قد يكـون منحدرا مـن أصل كاريبي أو أفريقي .. ثم هو قد يكون مسيحــيا أو يهوديا أو مسلما .. امرأة أو رجلاً .. شاباً أو كهلاً أو شيخاً .. ليبراليا أو متحفظا .. رياضيا أو غير رياضي . مؤرخاً أو معلماً أو روائياً أو عاملاً يدوياً .. مناصراً لقضايا المرأة أو غير مناصر .. طبيعي أو مِثلى .. محب أو باغض لهذا النشاط أو ذاك .. فالهويات الإنسانية متعددة بكل هذه التنوعات .. توجـد الهويات، العرقية، والجنسية، والثقافية، والحزبية، والأممية، والوطنية، والقبلـية أو الأسرية، والمجتمعية، والمذهبية، والرياضية، والسياسية، والمهنية، الوظيفية، والفكرية، والدينيّة أو الملليّة، والسلوكية، واللغوية، والمعرفية، والطبقية المالية أو الاجتماعية، وغير ذلك من الهويات التي تتنوع تنوعا بلا عدد .

ولا ينشأ التعصب إلاّ إذا سلخ الإنسان نفسه عن هوياته المتعددة، ليحصرها في هوية واحدة وحيدة متفردة، فينمو بالوعى وباللا وعى تعمق إحساسه بهذه الهوية التي يظن أو يعتقد أنها « الوحيدة » « الفريدة » ظنا غالبا ما يقترن بوصفها أو افتراض أنها مقاتلة متعين عليها أن تواجه وتناهض الهويات الأخرى المقابلة لها .. وهو ما يقف سببا وراء إثارة المواجهات الطائفية !

فالعالم كثيرا ما يؤخذ ـ فيما يقول المؤلف ـ على أنه مجموعة من الأديان، أو من الحضارات، أو من الثقافات، مع تجاهل الهويات الأخرى التي يتمتع بها الناس ويقدرونها، والتي تتعلق بالطبقة، والنـوع، والمهنة، واللغة، والعلم ـ والأخلاق، والسياسات . ينبغي لنا أن نرى بوضوح أن لنا أو لكل منا انتماءات كثيرة منفصلة، وأن هذه الانتماءات يمكن أن تتفاعل بعضها مع بعض بطرق كثيرة مختلفة، وإغفال حقيقة هذا « التعدد » لانتماءاتنا، وحاجتنا من ثم إلى التفكير والاختيار، هو الذي يجعل عالمنا مبهماً غامضاً مليئا بالتعصبات، ويدفعنا في اتجاه المنظور المرعب الذي مثله الشاعر والناقد الإنجليزي ماثيو أرنولد (1822/1888) في قصيدة شاطئ دوفر Dover Beach، والتي قـال مما قاله فيها:

وها نحن هنا والظلام مدلهم ينبسـط حولنــا

وقد ساقتنا إنذارات مشوهة بالصـراع والفـرار

إلى حيث جيوش جاهلة تتصارع في ظلام الليل

إننا قادرون على أن نفعل ما هو أفضل مـن ذلك

يرى المؤلف أن كثيراً من النزاعات والأعمال الوحشية في العالم ـ تتغذى على « هوية متفردة » لا اختيار فيها، وأن فن بناء الكراهية يأخذ في هذه الحالة شكل إثارة قوى سحرية لِهُويّة مزعومة السيادة والهيمنة تحجب كل الانتماءات الأخرى . والحقيقة أن من أهم مصادر الصراعات الكامنة في العالم المعاصر ـ الزعم بأن الناس يمكن تصنيفهم تصنيفا متفردا مؤسسا على الدين والثقافة . وهذا النظرة التقسيمية بشكل متفرد ـ ليست فقط ضد الاعتقاد قديم العهد بأن كل الكائنات البشرية متماثلة كثيرا، لكنها أيضا ضد الفهم الذي قلما يناقش ـ مع أنه أكثر قبولاً ـ بأننا ( برغم وحدة هوية ما ) مختلفون بدرجات متنوعة، وأنه من الخطأ أو من غير الواقعي أن يؤخذ العالم، والأفراد بالتالي، على أنه مجموعة من الأديان أو من الحضارات أو الثقافات، مع تجاهل الهويات الأخرى التي يتمتع بها الناس ويقدرونها، والتي تتعلق بالطبقـة، والنوع، والمهنة، واللغة، والعلم، والأخلاق، والسياسات . فالتقسيم المحوري المتفرد هو الأكثر قابلية لإثارة المواجهات، عن عالم التصنيفات المتعددة والمتنوعة التي يتشكل منها العالم الذي نعيش فيه .

الكتاب رائع وعريض المعالجة، في ستة فصول، تناولت بعد التمهيد: عنف الوهم، وإدراك مفهوم الهوية، والعزل الحضاري، والانتماءات الدينية والتاريخ الإسلامي، والغرب ضد الغرب، والثقافة والأسر، وأصوات العولمة، والتعددية الثقافية والحرية، وأخيراً: حرية التفكير .

ليس مرادي، ولا هو في وسعى في هذا الحيز ـ أن أنقل إليك ما في هذا الكتاب الضافي المثير للفكر والتأمل، ولكنى لم أشأ أن أفوت فكرته، وأن أقرنها بدعوة يجب أن يلتفت إليها كل متعصب: يهودي، أو صهيوني، أو عرقي، أو أصولي، أو طائفي، أو مللى حين ينساق وراء المتعصب لهوية واحدة وحيدة متفردة ويغضى عمَا عداها .. ترى ماذا سوف يكون حاله وتعصبه إذا وسَّعَ أفقه، وتأمل في هوياته المتعددة العالقة به شاء أم أبى .

هل سيظل على هذا التعصب المقيت الذي أحال العالم إلى ساحة مريرة للعنف والصراع والاشتباك ؟!!

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى