من تراب الطريق (1156)

من تراب الطريق (1156)

نشر بجريدة المال الأربعاء 11/8/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

البوم والغربان !

عقد بيدبا الفيلسوف، في كتابه ” كليلة ودمنة “، وترجمه إلينا عبد الله بن المقفع الذى قتلناه !ـ عقد بابا للبوم والغربان، قال دبشليم الملك لبيدبا الحكيم الفيلسوف: قد ضربت لي مثلا إخوان الصفا المتعاونين المتحابين، فهل تضرب لى مثلا للعدو الذى لا ينبغى الاغترار به وإن أظهر حسن الصفح والملق في العلانية ؟

أجابه بيدبا، بأن من اغتر بمثل هذا العدو، أصابه مـا يصيب الغربان !

قال الملك: وكيف كان ذلك ؟

طفق الفيلسوف الحكيم يروى ما كان من أمر شجرة عظيمة كأعظم ما تكون الدوح، وفيها وكر لألف غراب عليهم ملك منهم، وفي ليلة من الليالي أغار ملك البوم بمن معه على الغربان لما بينهم من عداوة، فقتل وجرح منهم كثيرين. فلما أصبح ملك الغربان، دعا إليه الباقين على قيد الحياة، فأنبهم على جرأة البوم عليهم، وطلب إليهم أن ينظروا في أمرهم ماذا هم فاعلون.

وكان في الغربان خمسة معترف لهم بفضيلة الرأي: قال أولهم إن العلماء سبقوا إلى هذا الرأي، فليس للعدو الحانق الذى لا يطـاق له حيلة، إلا الهرب منه !

أما الغراب الثاني، فلم ير أن الفرار هو الصواب، آخذا على سلفه ما أبداه، وقَفي فقال: كيف نجلو عن بلادنا وعن أوطاننا ( لا أقصد الإسقاط هنا على فلسطين ! ) ونذل لعدونا عند أول نكبة أصابتنا ؟ علينا أن نجمع أمرنا ونستعد لمجاهدة عدونا ونذكى العــيون فـيما بيننا وبينه ( الحذر والمراقبة )، ونحترس من عودة البوم وأخذنا على غرة، فإذا أقبل علينا عـدونا لاقيناه مستعدين، فنقاتلهم مزاحفة، ونتحرز منهم تحرزا حصيناً، وندفعهم بالأناة مرة وبالجهاد أخرى، حتى نصيب فرصتنا، فإذا أعيانا ذلك كان للهرب علة وعذر !

ولكن الغراب الثالث رأى رأياً آخر، حبذ فيه التحرز والمراقبة واستطلاع العدو لمعرفة نواياه، هل يريد الصلح أم يقبل دية، فإن كان من ذلك فائدة فإنه لا يكره الصلح على خراج يؤدى إليهم، ذلك أنه إذا اشتدت شوكة العدو، وخيف على الأنفس من الهلكة وعلى البلاد من الدمار ( لم يكن الاستيلاء والاستيطان قد عرف بعد ! )، فإنه من الحكمة أن تكون الأموال ” جُنّة ”

( وقاء ) للملوك والبلاد والرعية !

بيد أنه ما إن أذن الملك للغراب الرابع بالكلام، حتى انتفض يعترض قائلا: لا أراه رأيا، بل أرى ترك أوطاننا والاصطبار على الغربة وشدة المعيشة

( في المنفي ! )، فذلك خير من الخضوع للعدو، وقد كان يقال، فيما أبدى الغراب: ” قارب عدوك بعض المقاربة تنل حاجتك، ولا تقاربه كل المقاربة فيجترئ عليك ويضعف جندك ويذل نفسك ! فالرأي لنا المحاربة والصبر “.

التفت الملك إلى الغراب الخامس، آملا أن يجد لديه ما يفيد فيما شجر بين الغربان الأربعة من خلاف، فسأله: ما ترى ؟ القتال أو الصلح أو الجلاء ؟

اشرأب الغراب الخامس يقول: أما القتال، فلا سبيل إلى قتال عدو ليس المرء بقرين له، والعاقل لا يستضعف عدوه، فمن فعل ذلك اغتر، ومن اغتر لم يسلم.. وأكيس الأقوام من لم يلتمس الأمر بالقتال إذا وجد غير القتال سبيلا. وأضاف الغراب الخـامس موصيا: إن النفقة في القتال هي عن الأنفس، فلا يكون قتال اليوم من رأيك، فإن من يرى القتل لا يرى كل الخير !

سأله الملك: إذا كرهت القتال ـ ماذا ترى ؟ قـال الغراب: تؤامر وتتشاور. فالملك المشاور يصيب في مشاورته نصحا من ذوي العقول فيظفر بما لا يصيبه بضر، والملك الحازم يزداد حزمه بالتشاور ورأى الوزراء. وأنت أيها الملك كذلك، وقد استشرتني في أمور أجيبك في بعضها سرا وفي بعضها علانية. فأما ما لا أكره أن أعلنه، فهو أنى كما لا أرى القتال، فإني لا أرى الخضوع بالخراج والرضا بذل القهر. فإنه خير للعاقل أن يموت صابراً من أن يعيش عريانا ذليلا ( قديما قال شاعر: لا تسقني ماء الحياة بذلة: بل اسقني بالعز كأس الحنظل ! )

أما ما أريد أن أسره إليه.. قال الغراب: فإنه كان يقال: إنما يصيب الملوك الظفر بالحزم ـ والحزم بأصالة الرأي، والرأي بتحصين الأسرار، ومن حَصَّن سره فله من تحصينه إياه أمران: إما ظفر بما يريد، وإما يسلم من ضره وعيبه إن أخطأ. ولا بد لصاحب السر من مستشار مأمون يفضى إليه بسره ويعاونه على الرأي.

خلا الملك بالغراب الخامس ليستشيره، فكان فيما سأل عنه ـ أن قال له: هل تعلم ما كان من بدء العداوة بيننا وبين البوم. قال: نعم، كلمة تكلم بها غراب. قال الملك وكيف كان ذلك ؟

قال الغراب: إن سلفه قال لجماعة من الطير إنه لولا بادت وتبعثرت وتشتتت الطيور، ما ملكت البوم وهي أقبح الطير منظرا، وأسوأهم مخبرا، وأقلهم عقولا.. ومـن شر أمورها سفهها وسوء خلقها، إلاَّ أن الذى مكن لها أن جماعة الطيور استقلت برأيها ولم تعمل عقلها !

هنا توقفت عن الاسترسال مع بيدبا الفيلسوف، وملت على صديقي الجالس بجواري أسأله مازحا: دبرني يا وزيــر. قال: التدابـير لله يا ملك !

ملحوظة: ليس هذا حديثا في السياسة.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى