عبد العزيز فهمي ومسألة تعدد الزوجات ! (11)

عبد العزيز فهمي ومسألة تعدد الزوجات ! (11)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 21/6/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

يندر أن تجتمع المناقب السامقة المتعددة في شخص واحد، ولكنها اجتمعت وزيادة في عبد العزيز باشا فهمي. مع كل هذا التنوع في ثقافته وعلمه، وفي عطائه، ما إن يتناول أمرًا جديدًا، إلاَّ وتراه قد بلغ فيه القمة التي لا مرتقى بعدها لراق. إن الذي ترجم موسوعة جوستنيان عن القانون الروماني، ووضع منفردًا مشروع دستور لمصر وهو مع الوفد في باريس، ومحور وضع دستور 1923، والذي رصَّغَ درر أحكام محكمة النقض، تراه وقد أسلسته الظروف إلى تناول موقف الإسلام من تعدد الزوجات، يقبل عليه إقبال المجتهدين عن علم وتمكن.

لم يقل ـ كما يقول كثيرون ـ إن الإسلام لم يأت بالتعدد، فقد كان معروفًا يسود العالم من قرون، وأنه إنما أتى بالقيد فقيد التعدد بأربعة، ولكنه يغوص إلى الجذور ليأصل النظر، ما حكم التعدد في الإسلام، هل هو الأصل، أم هو استثناء، وهل هذا الاستثناء ـ إن كان ـ محكومٌ أم أنه لمطلق إرادة الرجل، يبنى بمن يشاء متى شاء.

كانت بداية تعرضه لهذا الموضوع، حين زاره المسرحي الكبير الأستاذ دريني خشبة، وتحدث معه في شأن مشروع قانون بالزواج تعتزم وزارة الشئون الاجتماعية تقديمه، لاستصداره، فتشعب بينهما الحديث حتى وصل إلى مسألة تعدد الزوجات، فأبدى له أن مقارنته لبعض الآيات القرآنية انتهت به إلى أن الأصل عندنا نحن المسلمين تحريم التعدد، وبين له وجه استدلاله، ولكن الأستاذ دريني خشبة دفع بالحديث إلى مجلة « المجتمع » فنشرته في فبراير 1947، ثم علم أن أحد المشتغلين بالفقه الإسلامي، رَدَّ عليه في عدد مارس، ومجمل رأيه أنه مصرح للمسلم الزواج بأربع، وكل المطلوب منه « العدل المستطاع » بين الزوجات، وأن هذا هو مدلول قوله سبحانه وتعالى: فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ، مضيفًا أنه ـ أي عبد العزيز فهمي ـ ترك هذه العبارة التي هي موطن الحكم، وأن تركها كمن يقول: « ويل للمصلين » تاركًا ذكر باقي الآية، إلى اعتراضات أخرى.

ولأسباب خاصة به، ومن واقع تجاربه في أحوالنا الاجتماعية، ـ أمسك عبد العزيز باشا فهمي عن الخوض في هذا الموضوع، بيد أنه في سبتمبر من ذات العام زاره بعض الأفاضل، وتطرق الحديث إلى هذا الموضوع، ولاختلاف الآراء وما أبداه الأستاذ أحمد أمين ـ قرر أن يغالب حالته الصحية وأن يكتب رأيه تفصيلاً.

الآيات القرآنية التي يبنى عليها:

ــ « وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا» ( النساء 2 )

ـ « وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ » ( النساء 3 )

ـ « وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ » ( النساء 129 )

أبدى الأستاذ عبد العزيز فهمي أن كلام الآيتين الثانية والثالثة من السورة، مسوق لتحقيق فضيلة العدل في المعاملة، فأشار في أولاهما إلى ما كان جاريًا من أكل مال اليتامى بالباطل والعبث بها، فأمرهم بترك هذا العبث، فهو إثم عظيم.

ولما كان بعض اليتامى إناثًا في حجر المخاطبين، ولهن أموال تحت يدهم، وكان من عاداتهم السيئة أن يتخذوا من هؤلاء اليتامى زوجات، ويمسكونهن وأموالهن ضرارًا ! كانت هذه العادة أشنع مظهر من مظاهر أكل أموال اليتامى، ولذلك فتتمة لفكرة العدل بالآية الثانية، وتثبيتًا لها، أشارت الآية الثالثة إلى هذا المنكر، وأتت بأبلغ ما يكون لصرف حاضني اليتامى عنهن، فحذرتهم الآية من هذا التذرع في هذا العبث بزواج اليتيمات اللاتي في حجورهم، داعيًا إياهم للتعفف عن النكاح المفضى إلى أكل أموال اليتامى، وأن لديهم الكثير من النساء الأخريات ما بوسعهم أن يتزوجوا بمن طاب لهم منهن.. ليس واحدة فقط، وإنما ما طاب لهم ـ طبقًا للعادات الجارية آنذاك مثنى وثلاث ورباع.

وعلى ذلك فإن هذه الآية ليست واردة لوضع قاعدة عامة وتحديد عدد الزوجات مطلقًا، بل هي مسوقة بالذات وبالقصد الأول إلى التضييق على المخاطبين في نكاح من تحت حجرهم من اليتيمات، لإمساكهن وأموالهن ضرارًا، مع تبكيتهم على هذا المنكر وتحذيرهم من مغبة عدم الانصراف عنه، فإن كانوا يتذرعن بمغالبة الشهوات لهم، فأمامهم الميسور لتحقيق رغباتهم دون الوقوع في هذا الإثم البالغ، وكل متذوق يعلم كم في التعبير بهذه الكيفية من الهزء والسخرية بالمخاطبين من جهة إبرازه أمام نظرهم صورة تكاد تكون مجسمة بتعاميهم عن إدراك ما هو في متناول يدهم عفوًا صفوًا لا إثم فيه طبقًا للعادات السارية آنذاك، وارتكابهم ذلك الإثم الكبير الذي هم في غنى عن ارتكابه.

غير أنه مع هذا التوسيع التقريبي العظيم لم يترك فكرة العدل التي هي أساس القول في هذه الآية وفي التي قبلها، بل سارع إلى التنبيه إليها والتنويه بها فقال: « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ». بل إنه أكدها بذكر العلة المرغبة الموجبة فقال: « ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ ». وللحديث بقية.

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى