عبد العزيز فهمي ومسألة تعدد الزوجات! ــ (الأخيرة)

عبد العزيز فهمي ومسألة تعدد الزوجات! ــ (الأخيرة)

نشر بجريدة الأهرام الإثنين 2/8/2021

بقلم: الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين

يعز عليَّ أن أتوقف عن الكتابة عن الوطني الفذ، والعلامة الأديب الفقيه الضليع، عبد العزيز باشا فهمي، ولعل ما يعزيني أن حقه يقتضي كتابًا ضخمًا، أرجو أن أتفرغ له، ولكنى لا أحب أن أودعه، ولا أن أختم بحثه في مسألة تعدد الزوجات إلاَّ برؤية شخصية أختم بها الحديث، بعد بيان أن الإسلام لا يقر الرق، ويقوم على مبدأ المساواة، ولا مكان فيه للطبقات، وإن كان يقر للمتميزين بالدرجة والمكانة، وليس بعلو الطبقة.

فالدرجة ــ لا الطبقة ــ هي جزاء المؤمنين وأسبقيتهم على غيرهم، ومكانة أولى العلم على من لا علم لهم، وللمجاهد على القاعد درجة، ومن ارتفعوا بهذا أو ذلك من الكفاءات، إنما ارتفعوا درجة أو درجات، لا طبقة ولا طبقات. فلا طبقات في الإسلام، وهذا معلم أساسي من معالم مبدأ المساواة فيه، فالكل إخوة، ولا فضل لعربي على عجمي ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أسود أو أحمر، إلاَّ بالتقوى.

وتتابع الآيات القرآنية التي ترسخ لهذا المفهوم الذي به سما مبدأ المساواة.. «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا» (النساء 1)، «وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ» (الأنعام 98)، «هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا» (الأعراف 189). هذا التنبيه متكرر في القرآن إلى أصل الإنسان الواحد.

المساواة، والإحساس العميق بها، والذي يتزايد مع نمو الأخلاق وتطور الثقافة واتساع رؤيتها. هذه المساواة كانت أساس تجفيف الرق وما ملكت الإيمان حتى انقطعا تمامًا، وتقبل المؤمنون انقطاعها بلا مناهضة إقرارًا بأن ما تفرضه حق، لا يتنافى ولا يتعارض مع الدين، بل إن الإسلام ذاته هو الذي أعلى مبدأ المساواة، وسد منافذ الرق، وفتح أبواب العتق، فجعله ثوابًا، وكفارة أيضًا للذنوب.. ككفارة الظهار واللعان، وكفارة الحنث في الأيمان والنذور، وكفارة القتل الخطأ. وأعملت هذه السياسة أثرها، مع أثر تقدم المدنية والحضارة، فاختفي الرق وما ملكت الإيمان شيئًا فشيئًا دون أن يأسى أحد من المسلمين على اختفائهما، أو يدعى متقول أن ذلك ضد الإسلام. الإسلام لا يقر الرق ولا يقر العبودية، بل هو عنوان المساواة والإنسانية.

بقى أن أقول لكم، إن الزمن ضد تعدد الزوجات، ومن المؤكد أن علم الله تعالى بذلك سابق، كعلمه سلفًا بأن مآل الرق الذي عالجه بالتدريج إلى الاختفاء، وقد اختفي.

وأن ما كان يمكن قبوله من ألف عام، لم يعد مقبولًا الآن، وأن مكانة الإناث التي كانت شبه معدومة في الزمن الغابر.

قد صارت ملء الحياة في الزمن الحاضر، الذي شهد ويشهد رئيسات للجمهورية، ورئيسات مجالس الوزراء، والوزيرات حتى لم يعد غريبًا أن تشغل أنثى وهذا حاصل ـ وزارة الحربية أو الدفاع، وتغيرت وتتغير كل يوم المفاهيم والعادات الاجتماعية، وأن الاتجاه ـ وبالإحصاءات ـ يميل إلى تناقص حالات تعدد الزوجات، تناقصًا يورى بأن مآل هذه الظاهرة إلى انقراض.

ولن يجد المتشحون بتفسيراتهم للدين، ما يساند استمرار هذه العادة القديمة التي لن تصمد للزمن، وقصارى ما يمكن لطلاب التعدد أن يستندوا إليه ـ أن الدين حسب تفسيرهم لم يمنع أو يحرّم التعدد، إلاًّ أن الأولى حجةًّ أنه لم يلزم بالتعدد، ولم يوجبه أو يحبذه أو يدعو إليه، بل وقال القرآن: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً».

ثم أخبر بأن هذا العدل محال حتى مع الحرص على تحقيقه بقـوله عز وجل: «وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ» (النساء 129).

هذا في ذاته كفيل ـ كما أتوقع ـ بانقراض ظاهرة تعدد الزوجات، والعودة إلى المعنى الصحيح للزواج كسكن وعشرة بين قطبين تلاقيا فتفاهما فاتفقا وتزوجا ونهضا على إقامة علاقة السكن والعشرة، كنواة لأسرة مترابطة ينتمي أولادها وبناتها إليها في مأمن من التحزبات والانحيازات وتنازعات الضرائر التي تدل على أن سفينتها لا تسير على سواء.

هذه صورة الغد كما أراها. لست أزعم أن الله تعالى حَرَّم التعدد، ولكنى مقتنع بأنه لم يوجبه أو يحبذه أو يدعو إليه، شأنه شأن الطلاق الذي أُبيح بضوابطه وأسبابه، ولكن قيل فيه إنه أبغض الحلال عند الله.

ولست أشبّه المرأة بالرقيق، ولكنى أتمثل فقط بما حدث في سياسة الرق التي قام المبدأ فيها على إننا أخوة، لا فضل لأحدٍ على آخر إلاَّ بالتقوى، وقامت السياسة على تغليق أسباب الاستعباد والاسترقاق.

وفتح منافذ العتق والحث عليه، وما هي إلاَّ أن دار الزمن دورته، حتى اختفت عادة أو ظاهرة الرق، دون أن يبكي أحد عليه.

وكان اختفاؤها في الأقطار الإسلامية أسبق زمانًا بكثير من اختفائها واختفاء التمييز العنصري في الولايات المتحدة، زعيمة العالم الحر.

لا أحسب أن تعدد الزوجات سيعيش ـ وإن أُبيح ـ إلى الأبد، وإنما مآله إلى الانحسار ثم الاختفاء.

زر الذهاب إلى الأعلى