المسيحية وآداب الحياة

المسيحية وآداب الحياة

نشر بجريدة الشروق الخميس 13/8/2020

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

يستهل الأستاذ العقاد هذا الفصل بالإشارة إلى الفيلسوف «أوريجون» الملحوظ المكانة في تاريخ الفلسفة والديانة المسيحية، والذي لا خلاف بين كثيرين على أنه أكبر المفكرين الدينيين الذين نبغوا في القرنين الثاني والثالث للميلاد.

ويشير إلى أن هذا الفيلسوف قرأ في شبابه قول السيد المسيح أن أناسًا يخصيهم الله، وأناسًا يخصيهم الناس، وأناسًا يخصون أنفسهم في سبيل الله، فحمل ذلك على معناه الحرفي، ولكنه أدرك خطأه بعد ذلك وعدل عن هذا الفهم الحرفي.

وثبوت هذه الرواية في سيرة مفكر كبير، يبطل العجب من روايات كثيرة بقيت بين أخبار الدعوة المسيحية في عصرها الأول، كمن يفقأ عينه إذا نظرت نظرة اشتهاء، أو يمسخ جسده مسخًا إذا راودته الشهوات، حتى ليتساقط منه الدود وهو على قيد الحياة !

ولم يبلغ أحد من هؤلاء مبلغ «أوريجون» الذي فهم وعدل عن خطئه، ليدرك أن السيد المسيح قصد المعاني ولم يقصد الحروف، وكان «كلمنت الإسكندري» يقول بحق: إن السيد المسيح لا يعني بنبذ المال أن نرفضه بتاتًا في جميع الأحوال، وإلاَّ ما كان الإحسان فضيلة من أكبر الفضائل في الوصايا المسيحية.

* * *

ومع ذلك لا يزال الخلاف في فهم وصايا السيد المسيح قائمًا في تفسيرها في أقوال حكماء المسيحية، ولا يزال هذا الخلاف قائمًا إلى عصرنا في الوصايا التي تدور على رفض الحياة خاصة.

وفى اعتقاد العقاد أنه لا محل للخلاف على الوصايا التي وجهها السيد المسيح لتلاميذه ورسله المتجردين لنشر الدعوة، فكل جهاد في الدين أو جهاد في الدنيا يحتاج من الدعاة لمثل هذا التجرد والانقطاع عن الشواغل الأخرى.

إنما الخلاف على الوصايا حين تتجه إلى غير التلاميذ والرسل.. إلى أبناء الدنيا الذين يعيشون فيها ويعملون لأنفسهم ولمن يعولونهم.

ويرى الأستاذ العقاد أنه يفهم وصايا السيد المسيح جميعًا ولا يجد في فهمها صعوبة على الإطلاق، وذلك ميسور إذا ما أنكرنا الجمود على الحروف والنصوص كما كان ينكرها عليه السلام.

«ليس الإنسان للسبت، وإنما السبت للإنسان»

* * *

كان هَمّ السيد المسيح في الإصلاح النفسي تغيير البواعث لا تغيير المقادير.

كان همّه أن ينقل الآداب من محور إلى محور، ولا قيمة في ذلك للمسافات ولا للأبعاد مادام انتقال المحور هو المقصود.

كانت العروض هي المحور الذي تدور عليه حياة الأمم والآحاد في عصره، فوجب أن يكون الجوهر الصميم هو محور الحياة.

كانت الأشياء مقدمة على النفس الإنسانية، فوجب أن تكون النفس الإنسانية مقدمة على الأشياء.

وجب أن يكون ربح النفس الإنسانية هو الغنيمة الكبرى.

* * *

إذا أصبح كسب النفس الإنسانية -كسب المحور- هو غاية الحياة، فإن الذي يملك الملايين زاهد كالذي يملك العشرات أو الذي لا يملك شيئًا من الأشياء.

تغيير المحور هو الذي عناه السيد المسيح.

وتغيير المحور لازم في ذلك العصر، ولازم في هذا العصر، وفي كل زمن ينحرف فيه الاتجاه عن سوائه.

لم يكن الإصلاح في الدعوات الكبرى قط مسألة مقادير ومسافات، وإنما كان على الدوام مسألة «محور» ينتقل، أو مسألة «باعث» يتغير.

فهل كان السيد المسيح يفوته أن الرداء والقميص اللذين يعطيهما المعطي هما هما اللذان يأخذهما الآخذ أو يسلبهما السالب ؟

كلا.. ما كان ليفوته ذلك ولا ريب.

ولكن النفس الإنسانية هي المقصود، وليس المقصود هو الرداء أو القميص.

المقصود هو أن ترفع النفس الإنسانية فوق أشيائها.

فليكن العطاء إذن حبًّا وطواعية، لأن من يعطي مجبرًا أو يعطي ما لا يهمه، يفقد شيئًا ولا يملك نفسه.

وليس كذلك من يعطى لأنه يريد العطاء.

أراد السيد المسيح أن يعبد الإنسان سيدًا واحدًا، ولا يعبد سيدين.

فمن يملك أموال الدنيا ولا يعبد المال فلا جناح عليه.

ومن يعبد الله ويستعبد المال فلا جناح عليه.

ولا نجاة لإنسان يملك درهمين إذا كان لا ينالهما بغير عبادة المال.

فالجسم أفضل من الطعام واللباس.

والإنسان أفضل من السبت.

وغنيمة النفس أربح من غنيمة العالم.

ومملكة الضمير في قرارة كل إنسان، أبقى من ممالك العروش والتيجان.

* * *

إن بساطة الإيمان أصلح من حذلقة العلماء والحفاظ، والحذلقة هي التي أبت أن تفهم حين قال القائل: إن العصفور المبكر يجد الدودة قبل غيره.. والحذلقة تتحذلق لأنها لا تعمل.. وهي لم تكسب شيئًا حين خسرت العمل !

كانت الدنيا حين جاء السيد المسيح، تدور على محور الشره والشر والبغضاء والنفاق، فأراد عليه السلام أن تدور على غير ذلك المحور بأن تنتقل إلى محور القناعة والخير والحب والصدق.

إن الرسالة ـ فيما يخلص الأستاذ العقاد، كاملة وافية حتى ولو كان الانتقال إلى حين أو في حيز محدود، فإنما العبرة بإضافة هذه القيم الجديدة إلى حساب الإنسانية، وحسب الإنسانية أن تستطيع تجديد الرسالة كلما انحرفت الإنسانية عن الجادة، أو احتاج ضمير الإنسان إلى «محور جديد».

ملكوت السماء

لا يتعجب الفاهم لرسالة ووحدة الأديان، من أن الأستاذ العقاد اختار استهلالاً لهذا الفصل عن ملكوت السماء في المسيحية، آية قرآنية.. تقول الآية: «إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (القصص 56).

فهذه الآية الكريمة، فيما يبدي العقاد، لها مرجع من تاريخ كل دعوة، ولا سيما الدعوات الدينية الكبرى.. وما من شيء هو أدعى إلى التدبر الطويل من المقابلة بين مقاصد أصحاب الدعوات وبين الغاية التي تنتهي إليها دعواتهم.

ماذا -مثلاً- لو أن أهل مكة عقلوا فاستجابوا إلى الدعوة المحمدية، وماذا كان يمكن أن يكون لو لم تتتابع الفصول الناجمة عن هذا الاستكبار والعناد ؟!

وماذا لو أن بني إسرائيل لم يشنفوا وينكروا وقبلوا دعوة السيد المسيح وصدقوه وفتحوا له أبواب الهيكل مرحبين مؤمنين.. ربما لو فعلوا لكان غاية الأمر أن يضاف اسم نبي إلى قائمة الأنبياء بين بنى إسرائيل وفي كتاب العهد القديم.

المقاومة التي كانت هي التي جسدت رسالة السيد المسيح، مثلما جسدت بعد ذلك الرسالة المحمدية.

لقد كان السيد المسيح يعظ التلاميذ ويقول لهم: ماذا تركتم للأمم؟ لأنهم أبناء أمة أَوْلَى بها أن تستمع إلى الحق من أبناء الأمم كافة.

ومنذ استحكمت النبوة بين السيد المسيح وبين الجامدين المتعصبين ـ قلت وصاياه التي يخص بها الأمة ويفردها بين الأمم، وكثرت في وصاياه الآداب الإنسانية التي يستحق بها الإنسان ملكوت السماوات.

غير أن ملكوت السماوات لا يفهم على صورة واحدة من روايات الأناجيل المتعددة، بل إنه لا يُذكر بلفظ واحد في جميع الأناجيل.. فإنجيل مرقس ولوقا يذكرانه باسم ملكوت الله، وإنجيل متى يذكره باسم ملكوت السماوات، ويتفق أحيانًا أن يذكر في جميع الأناجيل باسم ملكوت ابن الإنسان.

إن الحماسة الروحية التي كانت لازمة لتوحيد العقيدة في العالم الإنساني، لم تُعهد قط في غير الأديان الكتابية أو الأديان الإلهية.

ولحكمة خالدة وجد هذا الرسول في تلك الفترة، ولحكمة من الحكم الخالدة وجد هذا الرسول مطرودًا في قومه، ومن ثم لم تقتصر دعوته عليهم، فوجد العالم كله بغيته فيها.. وإن هذه لآية لو تدبر فيها الباحثون.. أن إعنات بنى إسرائيل وموقفهم من السيد المسيح هو الذي فتح العالم كله لدعوته عليه السلام.

وإنها لعبرة، أن انتصر «الجليلي» بملكوته السماوي على ممالك القياصر، وضم القياصر إلى حاشيته، فمنه يأخذون ما أخذوه باسم قيصر وما أخذوه باسم الله !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى