التركية العثمانية وأنهار الدماء (9)

التركية العثمانية

وأنهار الدماء (9)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 26/10/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

تصاعدت مع الأيام ، ابتزازات دولة الخلافة التركية العثمانية لخيرات مصر وقوتها ، سواء لتحقيق طموحاتها ، أو لصد التكالب عليها بعد أن فتحت الدول الغربية المسألة الشرقية ، فقد جعلت هذه الدول تتداخل بين الباب العالي ومتبوعيها بحجة حماية اليونانيين في الظاهر ، ولفتح المسألة الشرقية وتقسيم بلاد دولة الخلافة في الباطن ، واشرأبت الأطماع إلى الآستانة ذاتها ، وأرسلت فرنسا جيشًا عظيمًا لإتمام استقلال اليونان ، واحتلت فرنسا ولاية الجزائر بدعوى منع تعدى قراصنة البحر (المسلمين فيما تدعيه) على سفنها التجارية ، ساعيةً في الواقع إلى اتخاذ مركز حربى لها في شمال أفريقيا ، وامتدت الأطماع الأوروبية إلى ولايات الدولة العلية بالشام ، وحاصرت دولة الخلافة العثمانية العلية ـ المشاكل من كل جانب .. فماذا فعلت ؟!

كان محمد على باشا ، المنتدب المعين من الدولة العلية العثمانية ، قد انفرد بحكم مصر، وأقصى الزعيم الوطني الشعبي عمر مكرم حتى خلصه الموت منه ، فمات منفيًّا بأوامر الباشا في طنطا ، بعيدًا عن بيته وآله بالساحل بالقاهرة ، وإذ هو يدبر للتخلص من المماليك، جاءته أوامر دولة الخلافة العثمانية العلية ، بالتأهب واتخاذ السبل لمواجهة الحركة الوهابية بالحجاز ، وتجهيز جيش ـ من المصريين طبعًا ـ لإنفاذه إلى الحجاز تلبية لأوامر الدولة العلية العثمانية ، فطفق محمد على باشا يدبر معدات الحملة ـ من أموال وخيرات المصريين ـ في أوائل عام 1811م / 1226 هـ ، وقلد قيادتها لابنه أحمد طوسون باشا في مهرجان واحتفال فخم بالقلعة ، وحرص محمد على باشا أن يدعو للحفلة المشهودة جميع الأمراء والبكوات ورؤساء المماليك .

بيد أن محمد على كان يدبر للتخلص من رؤساء المماليك الذين اعتبروا دعوتهم للحفل علامة رضا ، وبقى الرؤساء بقاعة الاستقبال مع محمد على حتى أذن مؤذن الرحيل ، فقرعت الطبول وصدحت الموسيقى ، وانخرط المماليك فى الموكب الفخم الخارج إلى الحجاز لمواجهة الوهابيين ، وسار الموكب وفى أثره كبار المدعوين ، منحدرًا إلى الباب الغربي الواقع فى حضن الجبل من الجهة الغربية للقلعة ، في طريق ضيق وعَر ، حتى إذا ما اجتازت الباب طليعة الموكب ورئيس الشرطة والمحافظ ومن معه ثم « الوجاقلية » ، حتى أغلق الباب إغلاقًا محكمًا من الخارج ، ووجد المماليك أنفسهم محصورين ، من ورائهم جنود الأرناءود ، الذين سرعان ما ارتقوا الصخور المكتنفة للطريق الضيق ، وأخذوا مكانهم عليها وعلى الأسوار والحيطان المشرفة عليه ، قبل أن ينتبه المماليك في بادئ الأمر إلى إغلاق الباب ، وسرعان ما انهالت طلقات الرصاص من كل جانب على المماليك وهم محصورون في هذا المكان الضيق ، ودون أن تجديهم السيوف بعد أن تركوا بنادقهم وذخيرتهم لدواعى الاحتفال ، وما هي إلاَّ لحظات ، حتى حصدتهم الرصاصات حصدًا ، وحصدت من أرادوا الفرار بتسلق الصخور المحيطة بالطريق ، ومنهم شاهين بك الألفي الذي تمكن في عدة من مماليكه من تسلق الحائط والصعود إلى رحبة القلعة إلى عتبة قصر صلاح الدين ، فعاجلته طلقات الجنود الأرناءود وألقته صريعًا ، ولحق به سليمان بك البواب ، الذي استطاع أن يجتاز الطريق إلى سراى الحريم غارقًا في دمائه ، حيث استغاث بالنساء صائحًا (في عرض الحرم) ، وكانت الاستغاثة بالنساء تكفى آنذاك لتجنب الهلاك ، ولكن الجنود عاجلوه بالضرب حتى قطعوا رأسه ، في الوقت الذي وقف طوسون باشا على صهوة جواده منتظرًا انتهاء المذبحة ، لا يجيب أحدًا ممن تراموا على أقدام جواده طالبين الأمان !

وهكذا ، أبيد في القلعة في ذلك اليوم أربعمائة وسبعون من المماليك وأتباعهم ، قتلوا جميعًا ، ولم ينج منهم سوى « أمين بك » ، نَجَّاه أنه كان في مؤخرة الصفوف ، فلما رأى انهمار النيران ، صعد بجواده إلى المكان المشرف على الطريق ، وبلغ سور القلعة ، ومن هناك قفز بجواده من على ارتفاع ستين قدمًا ، فتلقى الجواد الصدمة وتهشم لفوره ، بينما كان أمين بك قد قفز من على صهوته عندما اقتربا من الأرض ، فنجا وانطلق فارًّا متخفيًا إلى جنوب سورية ، وهو من عرف فى رواية جرجى زيدان بالمملوك الشارد .

ولا شك أن المماليك محسوب عليهم عدد من المساوئ والمضار التى تسببوا فيها ، إلاَّ أن قتلهم جملة وغدرًا فى هذه المذبحة الجماعية ، أمر لا تقره شريعة ، ولا يقره قانون ، ولا تقره الإنسانية أيًا كانت دوافعه والمغانم التى ينتظرها محمد على من الفتك بهم على هذا النحو!

دفعت دولة الخلافة التركية العثمانية العلية ـ دفعت مصر إلى الحجاز لمحاربة الوهابية ، وقد استمرت هذه الحرب التى استنزفت خيرات مصر وصفوة رجالها وقوتها ـ ثمانى سنوات ، من سنة 1811م / 1226هـ ـ إلى سنة 1819م / 1235 هـ .

وفى الوقت الذى كانت دولة الخلافة التركية العثمانية العلية ، تقف موقف المتفرج ، وتتابع من بعيد مشاهد وفصول هذه الحرب ، كان المصريون يخوضون حربًا من أشق الحروب التى خاضوا غمارها ، وأطولها مدى ، ومن أكثرها ضحايا ، وجردت مصر فيها ـ اتباعًا لأوامر الدولة العلية العثمانية ـ حملات عدة ، كلفتها أرواح بنيها ، فضلاً عما بذل فيها من أموال مستقطعة من خيرات مصر ، تلبيةً فى الواقع لطموحات وأطماع دولة الخلافة العلية!

تحملت مصر فى هذه الحروب كثيرًا من الشدائد والأهوال ، ما بين قطع المسافات البعيدة المترامية بين الفيافى والقفار ، وتلقى المتاعب والأوصاب من شدة القيظ ووعورة الطريق ، فضلاً عن لهيب المعارك ، تحملت مصر فيها خسائر جسيمة ، وتحملت ما هو أعظم : خلق عداوات كانت فى غنى عنها ، وكان أولى بدولة الخلافة أن تصانع الحجازيين ، وتستولد منهم من يقاوم الحركة التى رأتها ضارة بالبلاد والعباد ، وأن تضطلع هى بالمسئولية ، ولكنها استغلت مصر وخيراتها وقوتها ورجالاتها أسوأ استغلال ، تحقيقًا لمطامعها ، فضلاً عما تسببت فيه هذه الحرب من عداوات أو حساسيات على أحسن الفروض .

بيد أنه هكذا كانت دولة « الخلافة العثمانية » !! وحسبنا هذا دون الخوض فى تفاصيل هذه الحروب ، فهو يخلق المزيد من الحساسيات !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى