في دوحة الإسلام (44)

في دوحة الإسلام (44)

نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 25/11/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

الناس قد تُعرض عن الوعظ المباشر، وتستقبل ما يتسلل إليها سهلاً لينًا.. ومن ذلك ما صادفني في كتاب كليلة ودمنة، فليس هو فقط للعامة والتسلية وإزجاء الفراغ، وإنما فيه تحليق في معانى الحكمة وما تلتقى فيه مع الإيمان وسداد السلوك الذي تأمر به الأديان، ويعتنقه الإسلام ويحض عليه.

لا تنه عن شيء وتأتى مثله

صادفني في كتاب « كليلة ودمنة » الذي كتبه بيدبا الفيلسوف الحكيم الهندي لدبشليم الملك، قصة عن الحمامة والثعلب ومالك الحزين، ظاهرها للتسلية وتزجية الفراغ، وباطنها حكمة لمن يعقل ويفهم..

كان دبشليم الملك قد جلس إلى الفيلسوف الحكيم يقول له إنه قد سمع ما ذكره له من أمر القضاء والقدر وغلبتهما على الأشياء، وطلب إليه أن يخبره عمن يطلب ضرّ غيره لما قد أصابه هو من الضر، دون أن يتخذ مما نزل به واعظاً يزجره عن ارتكاب المظالم والعدوان على غيره . فطال بهما الحديث، حتى طلب إليه الملك أن يضرب له مثلاً عمن يرى الرأى لغيره ولا يراه لنفسه  .

قال الفيلسوف: إن مثل ذلك مثل الحمامة والثعلب ومالك الحزين .

فقال الملك: وما مثلهم ؟

قال الفيلسوف الحكيم: زعموا أن حمامة كانت تفرخ على قمة نخلة طويلة تكاد تبلغ عنان السماء، وكانت تعانى تعباً ومشقة من نقل ووضع مستلزمات عشها على رأس تلك النخلة، لطولها وارتفاعها، فإذا فرغت من النقل وتدبير أمر « العش »  ـ باضت ثم حضنت بيضها حتى يفقس . فإذا فقس وخرجت الأفراخ، جاءها ثعلب لئيم، وهذا طبعه، كان قد تعاهد على ذلك منها، ويقدر ويحسب الوقت اللازم لنهوض أفراخها، فإذا حـل الميعاد الذي قدره، وقف بأسفل النخلة يصيح بالحمامة ويتوعدها أن يرقى ـ أي يصعد ـ إليها، فيتملكها الخوف والرعب من تهديده، فتلقى إليه بأفراخها لتتقي شره !

وبينما الحمامة ذات يوم قد أدرك لها فرخان، إذ أقبل مالك الحزين فوقع على النخلة، فلما رأى الحمامة كئيبة حزينة شديـدة الهم، سألها:  ما لي أراك كاسفة البال سيئة الحال ؟! فقالت له الحمامة: يا مالك الحزين، إن ثعلبًا دُهيت به، كلما كـان لي فرخان، جاءني (الثعلب) يهددني ويصيح من أسفل النخلة، فأفرق منه (أخاف وأرتعب ) فألقى إليه بفرخىْ.. قال لها مالك الحزين ناصحًا: إذا أتاك الثعلب ليفعل ما تقولين، فقولي له: لن ألقى إليك فرخىْ، فارْق أنت إلىّ  ( أي اصعد أنت )، وخذهما بنفسك، فإذا فعلت ذلك وأكلت فرخىْ ـ طرت عنك ونجوت بنفسي.

ألقى مالك الحزين بنصيحته الحكيمة، وعَلَّم الحمامة بفطنته هذه الحيلة، وانطلق راضياً فَحَطَّ رحاله على شاطئ أحد الأنهار، بينما كان الثعلب المكار قد اتخذ أهبته ـ

كعادته ! ـ لالتهام أفراخ الحمامة، وذهب إليها واثق الخطو إلى أسفل النخلة، وجعل يناديها ويهددها كما كان يفعل في كل مرة، إلاّ أنه فوجئ بردٍّ جديد أدرك منه أن هناك من علمها هذه الحيلة، فطفق يستدرجها بلؤمه أن تخبره بمن علمها هذا ؟ فقالت له: علمني مالك الحزين .

انطلق الثعلب مغيظًا محنقًا يبحث عن مالك الحزين وقد اشتعل غضبه، وظل في بحثه حتى وجده واقفا على شاطئ النهر، فبادره الثعلب قائلا: يا مالك الحزين، ماذا أنت فاعل إذا أتتك الريح عن يمينك.. أين تجعل رأسك ؟ قال مالك: أجعله عن شمالي . قال الثعلب: فإذا أتتك عن شمالك.. أين تجعل رأسك ؟ قال مالك: أجعله عن يميني أو خلفي . فاستأنف الثعلب: فإذا أتتك من كل مكان ومن كل ناحية.. أين تجعل رأسك ؟ قال مالك أجعله من تحت جناحي . فقال له الثعلب مستدرجا إياه في خبثٍ لئيم: وكيف تستطيع أن تجعله تحت جناحك ؟ ما أرى ذلك يتهيأ لك !

كان أن التقط مالك الطُّعم، فصمم على ما أبداه للثعلب وقال إنه يستطيع ذلك، فقال له ملك اللؤم والخباثة: إذن فأرنى كيف تصنع . فلعمرى يا معشر الطير قد فضلكن الله علينا . إنكن تدرين في ساعة واحدة مثل ما ندريه في سنة، وتبلغن ما لا نبلغ، وتستطعن إدخال رؤوسكن تحت أجنحتكن من  البرد والريح.. فهنيئًا لكن، فأرنى كيف تصنع ذلك ؟

اشتعل حماس مالك الحزين بعد هذا الإطراء، فسارع بإدخال رأسه تحت جناحيه، ولكن قبل أن يخرجه كان الثعلب اللئيم قد وثب عليه وثبةً واحدة، وجثم عليه يكسر عظامه ويقول له وهو يلتهمه: يـا عدو نفسه، ترى الرأي للحمامة وتعلمها الحيلة لنفسها، وتعجز عن ذلك لنفسك حتى يتمكن منك عدوك !!

فكم من ناصحٍ لغيره، يعجز عن نصح نفسه، ولا يتعلم ما قاله الثعلب للأسد حين سأله: من علمك الحكمة . قـال: « رأس الذئب الطائر » !!

*    *    *

يحمل هذا الدرس البسيط عبرة لمن يعتبر، ويرشد في بساطة إلى ما علّمنا الإسلام

إيّاه: لا تنه عن شيء وتأتى مثله !

المؤمن إذا قال فعل  . ينصح بما يلزم به نفسه.. لا يسلم مقاليده إلى كاذب لئيم،

ولا يعطى عقله لمن يعبث به ويزين له الباطل، دستوره كما علمه القرآن الحكيم، أن يمحص ما يأتي به الفاسق والخبيث حتى لا يصيب نفسه أو غيره بجهالة، فيمسى بما فرط منه من النادمين

كذلك قال ربك هو علىّ هيّن

استجابة لدعائه ؛ تلقى النبي زكريا بشارة ربه تبارك وتعالى:

« يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا » (مريم 7)

فقال زكريا لربه وقد استهول الأمر:

« قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا » (مريم 8)

« قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا » (مريم9)

الأسباب سنة كونية، تحكم البشر، وتحكم كل الخلائق والكائنات، ما يجرى بقانون البشر يجرى على سنة السبب والمسبب .

ولكن الخالق المهيمن أمره إذا قضى شيئًا أن يقول له كن فيكون.. ويكون ما شاء سبحانه أن يكون .

فالله سبحانه وتعالى هو القادر المقتدر.. لا يعجزه شىء في الأرض ولا في السماء، ويأتى بما يشاء خلقًا أو تغييرًا أو تبديلاً أو إعادة.. هو سبحانه وتعالى الذي خلق الكون وأبدعه، وهو عز وجل الذي سوى ما فيه من خلائق وكائنات وسير نظام الحياة على هذا النهج البديع المعجز.. بقدرته سبحانه التي تتعلق بها كينونة الأفعال والأشياء..

يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز :

«  إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » (يس 82)

«  إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ » (النحل 40)

«  سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ » (مريم 35)

صدق الله العظيم

لم يكن ذلك ليفوت النبي زكريا، وإنما كان استفهامًا كاستفهام إبراهيم الخليل عليه السلام عن إحياء الموتى والبعث والنشور.. استفهام منبعه الشوق إلى المعرفة، ومرامه المزيد من المعرفة.. أو كاستفهام موسى عليه السلام حين قال لربه فيما يرويه القرآن الكريم:

« قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ » (الأعراف 143)

وصدق سبحانه وتعالى إذْ يقول في كتابه العزيز:

« وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ » (القمر 50)

صدق الله العظيم

*    *    *

عن نبي الرحمة ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:

« أتى الله بعبد من عباده كان قد آتاه مالاً

فقال له: ماذا عملت في الدنيا ؟؟

قال: يا رب . آتيتنى مالاً فكنت أبايع الناس، وكان من خُلُقي الجواز ـ   أي التسامح ـ فكنت أيسّر على الموسر، وأنظر المعسر .

فقال الله تعالى: أنا أحق بذلك منك 0 تجاوزوا عن عبدى 0 وأدْخَلَه ـ سبحانه وتعالى ـ الجنة» .

اللهم فاملأ قلوبنا رفقًا ورحمة، وأعمالنا إسماحًا وحبًّا، وارض عنا، وزدنا من هداك هدى ونورًا.. أنت سبحانك مولانا وناصرنا، وأنت نعم المولى ونعم النصير.. يا رب .

*    *    *

  • المؤمن يعرف أننا دخلنا الدنيا عابرين، غير مستوطنين ولا مقيمين.. مجرد عابري سبيل؛ الدنيا منزل عبور ومعبر مرور . المؤمن يتزود فيها لدار القرار، وصدق سبحانه وتعالى: «وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ » ( البقرة 197 ) .
  • إذا اكتمل القلب بنور ذكر الله، وصار بحرًا موّاجًا من نسمات القرب، جرى في جداول أخلاق النفس صفاء النعوت والصفات، وتحقق التخلق بأخلاق الله تعالى .
  • قال بعض العارفين: المعرفة توجب الحياء والتعظيم، كما أن التوحيد يوجب الرضا والتسليم .
  • قيل في العارف إنه أنس بذكر الله فأوحشه من خلقه، وافتقر إلى الله فأغناه عن خلقه، وذلَّ لله تعالى فأعزه في خلقه.

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى