حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٨٢ لسنة ١٧ دستورية

حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٨٢ لسنة ١٧ دستورية
تاريخ النشر : ١٩ – ٠٧ – ١٩٩٧

منطوق الحكم : رفض دستورية

مضمون الحكم : حكمت المحكمة برفض طلب الحكم بعدم دستورية نصي المادتين السادسة والحادية عشرة من المرسوم بقانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٩ الخاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية المعدل بالقانون رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥ بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية فيما تضمناه من إعطاء القاضى حق تطليق الزوجه من زوجها دون رضائه رغم عدم ثبوت الضرر .

الحكم

برياسة عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة وحضور فاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وعبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين وعدلى محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله أعضاء وحنفى على جبالى رئيس هيئة المفوضين وحمدى أنور صابر أمين السر .

– – – ١ – – –
من المقرر فى قضاء هذه المحكمة ، أن حكم المادة الثانية من الدستور ــ بعد تعديلها فى ٢٢ من مايو ١٩٨٠ ــ يدل على أن الدستور أوردها ليفرض بمقتضاها ــ وإعتباراً من تاريخ العمل بهذا التعديل ــ قيداً على السلطة التشريعية يلزمها فيما تقره من النصوص القانونية ، بألا تناقض أحكامها مبادئ الشريعة الإسلامية فى أصولها الثابتة ــ مصدراً وتأويلاً ــ بعد أن إعتبرها الدستور مرجعاً ترد إليه هذه النصوص فلا تعارضها ، بإعتبار أن هذه الأحكام وحدها هى التى يكون الاجتهاد فيها ممتنعاً ، إذ هى عصية على التعديل ، ولا يجوز الخروج عليها ، أو الالتواء بها عن معناها . وتنصب ولاية المحكمة الدستورية العليا فى شأنها على مراقبة التقيد بها ، وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها . ولا كذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها ، أو بهما معاً ، ذلك أن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها ، ولا تمتد لسواها ، وهى بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان ، لضمان مرونتها وحيويتها ، ولمواجهة النوازل على إختلافها تنظيماً لشئون العباد بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعاً ، ولا يعطل بالتالى حركتهم فى الحياة ، على أن يكون الاجتهاد دوماً واقعاً فى إطار الأصول الكلية للشريعة بما لا يجاوزها ، ملتزماً ضوابطها الثابتة ، متحرياً مناهج الاستدلال على الأحكام العملية والقواعد الضابطة لفروعها ، كافلاً صون المقاصد الكلية للشريعة بما تقوم عليه من حفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال .

– – – ٢ – – –
من المقرر فى قضاء هذه المحكمة ، أن حكم المادة الثانية من الدستور ــ بعد تعديلها فى ٢٢ من مايو ١٩٨٠ ــ يدل على أن الدستور أوردها ليفرض بمقتضاها ــ وإعتباراً من تاريخ العمل بهذا التعديل ــ قيداً على السلطة التشريعية يلزمها فيما تقره من النصوص القانونية ، بألا تناقض أحكامها مبادئ الشريعة الإسلامية فى أصولها الثابتة ــ مصدراً وتأويلاً ــ بعد أن إعتبرها الدستور مرجعاً ترد إليه هذه النصوص فلا تعارضها ، بإعتبار أن هذه الأحكام وحدها هى التى يكون الاجتهاد فيها ممتنعاً ، إذ هى عصية على التعديل ، ولا يجوز الخروج عليها ، أو الالتواء بها عن معناها . وتنصب ولاية المحكمة الدستورية العليا فى شأنها على مراقبة التقيد بها ، وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها . ولا كذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها ، أو بهما معاً ، ذلك أن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها ، ولا تمتد لسواها ، وهى بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان ، لضمان مرونتها وحيويتها ، ولمواجهة النوازل على إختلافها تنظيماً لشئون العباد بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعاً ، ولا يعطل بالتالى حركتهم فى الحياة ، على أن يكون الاجتهاد دوماً واقعاً فى إطار الأصول الكلية للشريعة بما لا يجاوزها ، ملتزماً ضوابطها الثابتة ، متحرياً مناهج الاستدلال على الأحكام العملية والقواعد الضابطة لفروعها ، كافلاً صون المقاصد الكلية للشريعة بما تقوم عليه من حفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال .

– – – ٣ – – –
الطلاق وإن شرع رحمة من الله بعباده ، وجعل أمره بيد الرجل باعتباره أقدر على تحكيم العقل وتبصر العاقبة ، وكان الطلاق من فرق النكاح التى ينحل الزواج الصحيح بها بلفظ مخصوص صريحاً كان أم كنائياً ، وكان غالباً ما يقع إذا ما غفا وازع الدين والخلق ، وصار بنيان الأسرة متهادماً ، وصرحها متداعياً ، ورباطها متآكلاً يكاد أن يندثر ، وكان وقوع شقاق إستفحل أمره بين الزوجين إنحرافاً من أحدهما أو كليهما عن مقاصد الزواج ، يقيم بينهما جفوة فى المعاملة لا يكون العدل والإحسان قوامها ، بل يذكيها التناحر ، فلا تكون حياتهما إلا سعيراً يمتد أواره إلى الأسرة جميعها ، فلا يؤول أمرها إلا هشيماً ، ولا يكون إلفها ووفاقها إلا حسيراً ، وكان خلافهما وإن صار عميقاً ، ونزاعهما مستحكماً ، لا يحول دون جهد يبذل من جانبهما ، أو من قبل رجلين عدلين من أهلهما إن أمكن ، يسعيان بينهما معروفاً ، وينظران فى أمرهما ليقيما بينهما حدود الله تعالى ، فإن تعذر أن يصلحا ما أختل من شئونهما ، أغنى الله ــ إن تفرقا ــ كلاً من سعته . بيد أن الفقهاء مختلفون فيمن يستبد حينئذ بالتفريق بينهما ، ولكل وجهة هو موليها . أصل التحكيم عند وقوع شقاق بين الزوجين مرده إلى قوله تعالى ” وإن خفتم شقاق بينهما ، فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ، إن الله كان عليما خبيرا ” ، وكان الفصل فيما إذا كان الحكمان لا يكلفان إلا بأن يصلحا بين زوجين إستفحل عنادهما وجفاؤهما ، أم أنهما مطالبان عند إخفاقهما فى ذلك بأن يفرقا بينهما بمال أو بغير مال ، رضيا أم أبيا ، لا يندرج تحت المسائل التى حسمتها الشريعة الإسلامية فى مبادئها الكلية المقطوع بثبوتها ودلالتها ، فإن حدود مهمتهما تعد من المسائل الاجتهادية التى يتصور أن تتباين الأنظار فى شأنها ، فمن نظر من الفقهاء ــ كأبى حنيفة وأصحابه والظاهرية والشيعة الإمامية والشافعى فى أحد قوليه ــ إلى أن عمل الحكمين لا يجاوز سعيهما إلى التوفيق بين زوجين إستحكم خلافهما ، سلباهما حق التفريق إلا بتفويض من الزوج ، إستصحاباً للأصل فى الطلاق ، وهو معقود بيده إلا أن يوكل غيره فيه ، ولأن الحياة الزوجية ــ فى رأيهم ــ لا تصفو من شقاق يخالطها عادة ، فلا يجوز أن يكون خلافهما أيا كان مداه ، سبباً لحل عقدتها وفصم رابطتها . ومن نحا من الفقهاء إلى جعلهما حاكمين ، كالمالكية وأحمد بن حنبل فى إحدى روايتين عنه ، يخولانهما أن يقررا فى شأن الزوجين ما ينتهيان إليه بعد بحثهما لأحوالهما ، سواء كان قرارهما بجمعهما أم بالتفريق بينهما ، على أن يتولى القاضى إمضاء حكمهما وتنفيذه . وهم يؤسسون إجتهادهم على أن الله تعالى إعتبر المبعوثين حكمين لا وكيلين ، ولو أرادهما وكيلين ما قصرهما على أهله وأهلها . وبعثهما إلى الزوجين غير معلق على قبول زوجها ، ولا يتصور بالتالى أن يكون قد أنابهما عنه فى مهمتهما محدداً إطارها . كذلك فإن إتصال الشقاق بين زوجين وإطراد نزاعهما يشى بأن جذوة حياتهما تكاد أن ترتد عن مواقعها ، وأن مضاراً يتعذر إحتمالها أو القبول بها ، صار أمرها بادياً وأثرها ملحوظاً ، فإذا لم يتدخل زوجها لرفعها ، قام الحكمان بدفعها .

– – – ٤ – – –
لطلاق وإن شرع رحمة من الله بعباده ، وجعل أمره بيد الرجل باعتباره أقدر على تحكيم العقل وتبصر العاقبة ، وكان الطلاق من فرق النكاح التى ينحل الزواج الصحيح بها بلفظ مخصوص صريحاً كان أم كنائياً ، وكان غالباً ما يقع إذا ما غفا وازع الدين والخلق ، وصار بنيان الأسرة متهادماً ، وصرحها متداعياً ، ورباطها متآكلاً يكاد أن يندثر ، وكان وقوع شقاق إستفحل أمره بين الزوجين إنحرافاً من أحدهما أو كليهما عن مقاصد الزواج ، يقيم بينهما جفوة فى المعاملة لا يكون العدل والإحسان قوامها ، بل يذكيها التناحر ، فلا تكون حياتهما إلا سعيراً يمتد أواره إلى الأسرة جميعها ، فلا يؤول أمرها إلا هشيماً ، ولا يكون إلفها ووفاقها إلا حسيراً ، وكان خلافهما وإن صار عميقاً ، ونزاعهما مستحكماً ، لا يحول دون جهد يبذل من جانبهما ، أو من قبل رجلين عدلين من أهلهما إن أمكن ، يسعيان بينهما معروفاً ، وينظران فى أمرهما ليقيما بينهما حدود الله تعالى ، فإن تعذر أن يصلحا ما أختل من شئونهما ، أغنى الله ــ إن تفرقا ــ كلاً من سعته . بيد أن الفقهاء مختلفون فيمن يستبد حينئذ بالتفريق بينهما ، ولكل وجهة هو موليها . أصل التحكيم عند وقوع شقاق بين الزوجين مرده إلى قوله تعالى ” وإن خفتم شقاق بينهما ، فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ، إن الله كان عليما خبيرا ” ، وكان الفصل فيما إذا كان الحكمان لا يكلفان إلا بأن يصلحا بين زوجين إستفحل عنادهما وجفاؤهما ، أم أنهما مطالبان عند إخفاقهما فى ذلك بأن يفرقا بينهما بمال أو بغير مال ، رضيا أم أبيا ، لا يندرج تحت المسائل التى حسمتها الشريعة الإسلامية فى مبادئها الكلية المقطوع بثبوتها ودلالتها ، فإن حدود مهمتهما تعد من المسائل الاجتهادية التى يتصور أن تتباين الأنظار فى شأنها ، فمن نظر من الفقهاء ــ كأبى حنيفة وأصحابه والظاهرية والشيعة الإمامية والشافعى فى أحد قوليه ــ إلى أن عمل الحكمين لا يجاوز سعيهما إلى التوفيق بين زوجين إستحكم خلافهما ، سلباهما حق التفريق إلا بتفويض من الزوج ، إستصحاباً للأصل فى الطلاق ، وهو معقود بيده إلا أن يوكل غيره فيه ، ولأن الحياة الزوجية ــ فى رأيهم ــ لا تصفو من شقاق يخالطها عادة ، فلا يجوز أن يكون خلافهما أيا كان مداه ، سبباً لحل عقدتها وفصم رابطتها . ومن نحا من الفقهاء إلى جعلهما حاكمين ، كالمالكية وأحمد بن حنبل فى إحدى روايتين عنه ، يخولانهما أن يقررا فى شأن الزوجين ما ينتهيان إليه بعد بحثهما لأحوالهما ، سواء كان قرارهما بجمعهما أم بالتفريق بينهما ، على أن يتولى القاضى إمضاء حكمهما وتنفيذه . وهم يؤسسون إجتهادهم على أن الله تعالى إعتبر المبعوثين حكمين لا وكيلين ، ولو أرادهما وكيلين ما قصرهما على أهله وأهلها . وبعثهما إلى الزوجين غير معلق على قبول زوجها ، ولا يتصور بالتالى أن يكون قد أنابهما عنه فى مهمتهما محدداً إطارها . كذلك فإن إتصال الشقاق بين زوجين وإطراد نزاعهما يشى بأن جذوة حياتهما تكاد أن ترتد عن مواقعها ، وأن مضاراً يتعذر إحتمالها أو القبول بها ، صار أمرها بادياً وأثرها ملحوظاً ، فإذا لم يتدخل زوجها لرفعها ، قام الحكمان بدفعها .

– – – ٥ – – –
النص المطعون فيه ــ وفى حدود السلطة التى يملكها أولى الأمر لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية ــ نظر إلى المحكمين ــ لا باعتبارهما مخولين حق التفريق بين الزوجين ، وإنما يكون بعثهما ليحيطا بمظاهر النزاع بينهما ، على أن يقفا كذلك على اسبابها ، ثم يحددا بعدئذ من يكون منهما مسيئاً إلى الآخر ، وما ينبغى أن يرفع به النزاع من فرقة دون بدل أو ببدل يكون متناسباً وقدر الإساءة أو نسبتها . ولا يناقض هذا الاجتهاد من ولى الأمر حكماً قطعياً ، بل يقع فى دائرة المسائل الخلافية التى تتفرق الآراء من حولها ، والتى لا تتقيد الحلول التشريعية المتعلقة بها بغير ما يكفل للعباد مصالحهم المعتبرة شرعاً ، فلا تكلفهم ما لا يطيقون ، أو تقنطهم مما يأملون وفق مقاصد شريعتم ، وبمراعاة أصولها .

– – – ٦ – – –
جرى قضاء هذه المحكمة على أن أية قاعدة قانونية ولو كان العمل قد إستقر عليها أمداً ، لا تحمل فى ذاتها ما يعصمها عن العدول عنها ، وإبدالها بقاعدة جديدة لا تصادم حكماً شرعياً قطعياً . وروداً ودلالة ، وتكون فى مضمونها أرفق بالعباد ، وأحفل بشئونهم ، وأكفل لمصالحهم الحقيقية التى يجوز أن تشرع الأحكام لتحقيقها بما يلائمها ، فذلك وحده طريق الحق والعدل ، وهو خير من فساد عريض . ومن ثم ساغ الاجتهاد فى المسائل الاختلافية التى لا يجوز أن تكون أحكامها جامدة بما ينقض كمال الشريعة ومرونتها ، ذلك إن إعمال حكم العقل فيما لا نص فيه ، توصلاً لتقرير قواعد عملية يقتضيها عدل الله ورحمته بين عباده ، مرده أن هذه القواعد تسعها الشريعة الإسلامية ، إذ هى غير منغلقة على نفسها ، ولا تضفى قدسية على أقوال أحد من الفقهاء فى شأن من شئونها ، ولا تحول دون مراجعتها وتقييمها وإبدال غيرها بها بمراعاة المصلحة الحقيقية التى يقوم عليها دليل شرعى . فالآراء الاجتهادية لا تجاوز حجيتها قدر إقتناع أصحابها بها ، ولا يسوغ بالتالى إعتبارها شرعاً ثابتاً متقرراً لا يجوز أن ينقض ، وإلا كان ذلك نهياً عن التأمل والتبصر فى دين الله تعالى ، وإنكاراً لحقيقة أن الخطأ محتمل فى كل إجتهاد . ومن ثم صح القول بأن إجتهاد أحد من الفقهاء ، ليس بالضرورة أحق بالاتباع من إجتهاد غيره ، وربما كان أضعف الآراء سنداً ، أكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة ، ولو كان مخالفاً لأقوال إستقر عليها العمل زمناً .

– – – ٧ – – –
جرى قضاء هذه المحكمة على أن أية قاعدة قانونية ولو كان العمل قد إستقر عليها أمداً ، لا تحمل فى ذاتها ما يعصمها عن العدول عنها ، وإبدالها بقاعدة جديدة لا تصادم حكماً شرعياً قطعياً . وروداً ودلالة ، وتكون فى مضمونها أرفق بالعباد ، وأحفل بشئونهم ، وأكفل لمصالحهم الحقيقية التى يجوز أن تشرع الأحكام لتحقيقها بما يلائمها ، فذلك وحده طريق الحق والعدل ، وهو خير من فساد عريض . ومن ثم ساغ الاجتهاد فى المسائل الاختلافية التى لا يجوز أن تكون أحكامها جامدة بما ينقض كمال الشريعة ومرونتها ، ذلك إن إعمال حكم العقل فيما لا نص فيه ، توصلاً لتقرير قواعد عملية يقتضيها عدل الله ورحمته بين عباده ، مرده أن هذه القواعد تسعها الشريعة الإسلامية ، إذ هى غير منغلقة على نفسها ، ولا تضفى قدسية على أقوال أحد من الفقهاء فى شأن من شئونها ، ولا تحول دون مراجعتها وتقييمها وإبدال غيرها بها بمراعاة المصلحة الحقيقية التى يقوم عليها دليل شرعى . فالآراء الاجتهادية لا تجاوز حجيتها قدر إقتناع أصحابها بها ، ولا يسوغ بالتالى إعتبارها شرعاً ثابتاً متقرراً لا يجوز أن ينقض ، وإلا كان ذلك نهياً عن التأمل والتبصر فى دين الله تعالى ، وإنكاراً لحقيقة أن الخطأ محتمل فى كل إجتهاد . ومن ثم صح القول بأن إجتهاد أحد من الفقهاء ، ليس بالضرورة أحق بالاتباع من إجتهاد غيره ، وربما كان أضعف الآراء سنداً ، أكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة ، ولو كان مخالفاً لأقوال إستقر عليها العمل زمناً .

– – – ٨ – – –
الاجتهاد فى الأحكام الظنية وربطها بمصالح الناس ، عن طريق الأدلة الشرعية ــ النقلية منها والعقلية ــ وإن كان حقاً لأهل الاجتهاد ، فأولى أن يكون هذا الحق مقرراً لولى الأمر ، ينظر فى كل مسألة بخصوصها ، بما يناسبها إخماداً للثائرة وإنهاء للتنازع والتناحر وإبطالاً للخصومة ، مستعيناً فى ذلك كله بمن يفقهون دينهم ، ولا يكون عملهم إلا فهماً أعمق لقواعده ، وهو فى ذلك لا يتقيد بالضرورة بآراء الآخرين ، بل يجوز أن يشرع على خلافها ، وأن ينظم شئون العباد فى بيئة بذاتها تستقل بأوضاعها وظروفها الخاصة ، بما يرد الأمر المتنازع عليه إلى الله ورسوله ، مستلهماً فى ذلك حقيقة أن المصالح المعتبرة هى تلك التى تكون مناسبة لمقاصد الشريعة ، متلاقية معها ، وهى بعد مصالح لا تتناهى جزئياتها أو تنحصر تطبيقاتها ، ولكنها تتحدد تبعاً لما يطرأ عليها من تغيير وتطور . ومن ثم كان حقاً عند الخيار بين أمرين مراعاة أيسرهما ما لم يكن إثماً ، وكان واجباً كذلك ألا يشرع ولى الأمر حكماً يضيق على الناس ، أو يرهقهم من أمرهم عسراً ، وإلا كان مصادماً لقوله تعالى : ” ما يريد الله ليجعل عليكم فى الدين من حرج ” . ولازم ذلك ، أن الاجتهاد حق لولى الأمر فى الدائرة التى شرع فيها ، ليكون كافلاً وحدة الشريعة ميسراً لقواعدها ، بإمدادها دوماً بما يعين على إكتمال نمائها .

– – – ٩ – – –
ما نص عليه الدستور فى المادة ٩ ــ وأحكامه متكاملة لا تنافر فيها ــ من أن الأسرة قوامها الدين والأخلاق والوطنية ، وأن صون طابعها الأصيل وإرساء قيمها وتقاليدها ضرورة لا يجوز لأحد أن ينحيها ، مؤداه أن الأسرة لا يصلحها شقاق إستفحل مداه ومزق تماسكها ووحدتها ، ودهمها بالتالى تباغض يشقيها ، بما يصد عنها تراحمها وتناصفها ، فلا يرسيها على الدين والخلق القويم ، وكان النص المطعون فيه ــ وقد أجاز التفريق بين زوجين غشيهما وأمضهما نزاع مستحكم ــ قد هيأ لهما مخرجاً يرد عنهما كل حرج ، ويزيل عسرهما ، فلا تكون حياتهما وزراً وهضماً ، ولا عوجاً وأمتا ، فإنه بذلك لا يكون مخالفاً للدستور .

– – – ١٠ – – –
العقيدة الإسلامية قوامها خلقاً متكاملاً وسلوكاً متسامياً ، وأعمق فضائلها أن يكون المؤمن منصفاً خيرا فطناً ، معاوناً لغيره ، رءوفاً بالأقربين ، فلا يمد يده لأحد بسوء ، ولا يلحق بالآخرين ضرراً غير مبرر ، بل يكون للحق عضداً ، وللمروءة نصيراً ، ولإباء النفس وشمعها ظهيراً ، وما الزواج إلا علاقة نفسية وإجتماعية يرتهن بقاؤها بمودتها ورحمتها ، باعتدالها ويقظتها ، بعدلها وإحسانها . وتمزيق أوصالها بالشحناء ، إيهان لها ، ومروق عن حقيقتها ، وكلما إستبد الرجل بزوجه وأرهقها صعوداً بما يجاوز حد إحتمالها ، فإن طلبها التفريق منه يكون جزاء وفاقاً ، وإذا كان عتو خلافهما ، قد أحال مسراه ضلالاً ، أفلا تستجير من بأسائها بطلبها التفريق من زوجها ، ثم الإصرار عليه .

[الطعن رقم ٨٢ – لسنــة ١٧ ق – تاريخ الجلسة ٠٥ / ٠٧ / ١٩٩٧ – مكتب فني ٨ – رقم الجزء ١ – رقم الصفحة ٦٩٣ – تم رفض هذا الطعن]

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة. حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن المدعى كان قد وجه إلى زوجته – المدعى عليها الرابعة – بتاريخ ٢١ / ٩ / ١٩٩٤ إنذارا بالدخول فى طاعته؛ فردت عليه بالاعتراض المقيد بجدول محكمة القاهرة الابتدائية للأحوال الشخصية “نفس” رقم ١٩٦٥ لسنة ١٩٩٤؛ وأثناء نظر الاعتراض أضافت طلب التفريق عملا بالفقرة الأخيرة من المادة ١١ مكرراً من المرسوم بقانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٩ المعدل بالقانون رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥. وبجلسة ٧ / ١١ / ١٩٩٥ دفع المدعى بعدم دستورية المادتين ٦ و١١ من هذا القانون، وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية دفعه؛ وصرحت له برفع دعواه الدستورية، فقد أقام الدعوى الماثلة. وحيث إن المدعى ينعى على النصين المطعون فيهما مخالفتهما لمبادئ الشريعة الإسلامية، ولأحكام المادتين ٩ و١٠ من الدستور، وذلك من أوجه أربعة: [أولها] أن الله بواسع حكمته، اختص الأزواج بالطلاق، وأسنده إليهم باعتبار أن عقد الزواج عهد وميثاق ميزه الإسلام عن سائر العقود، فلايجرى على نسقها، ولايقاس عليها، ومؤدى أحكامه أن الزوج وحده هو الذى يملك حل عقدته. ولو كان الله سبحانه وتعالى يجيز تطليق الزوجة من زوجها رغم مما نعته، لفتح بابا لذلك فى كتابه العزيز؛ وإذ لم يفعل، فإن الاجتهاد لايجوز أن ينزلق إلى تغيير حكم الله تعالى. [ثانيها] أنه حتى الخلع – وعند قيام مقتضاه – وإن كان جائزا شرعاً بتراض من الزوجين؛ ويحق للقاضى إلزام الزوج به؛ إلا أنه لايملك أن يحل محل الزوج فى إيقاع الطلاق. [ثالثها] أن قيام القاضى بتطليق الزوجة من زوجها رغما عنه واستجابة لطلبها رغم عدم ثبوت الضرر، يعنى انتقال حق الطلاق إليها بما يخالف مبادئ الشريعة الإسلامية؛ ويهدم روابط الأسرة وهى أساس المجتمع؛ ويناقض التزام الدولة بحماية الأمومة والطفولة. [رابعها] أن النصين المطعون عليهما خالفا مبدأ مقررا فى تشريعات الأحوال الشخصية نصت عليه المادة ٢٨٠ من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، ومؤداه أن تصدر الأحكام – حال غياب نص فى المسائل التى تتعلق بها – طبقا لأرجح الأقوال من مذهب أبى حنيفة؛ وهذا المذهب – ومعه المذهب الشافعى والظاهرية وغيرهم – على أن الزوجة ليس لها طلب التفريق من زوجها عند وقوع شقاق بينهما، وهو مايتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية ولايجاوزها؛ فيما يرى المالكية وحدهم – وبمذهبهم أخذ القانون المطعون فيه – أن للزوجة فى حالة الشقاق، أن تطلب من القاضى التفريق بينها وبين زوجها، وبذا يكون القانون قد ترك الرأى الأرجح فى الفقه إلى الرأى الأضعف. وحيث إن المادتين المطعون عليهما من المرسوم بقانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٩ الخاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية، تجريان على النحو الآتى: – مادة ٦: “إذا ادعت الزوجة إضرار الزوج بها بما لايستطاع معه دوام العشرة بين أمثالهما، يجوز لها أن تطلب من القاضى التفريق، وحينئذ يطلقها القاضى طلقة بائنة إذا ثبت الضرر وعجز عن الإصلاح بينهما، فإذا رفض الطلب ثم تكررت الشكوى، ولم يثبت الضرر، بعث القاضى حكمين، وقضى على الوجه المبين بالمواد ٧ و٨ و ٩ و١٠ و١١”. مادة ١١: “وعلى الحكمين أن يرفعا تقريرهما إلى المحكمة مشتملا على الأسباب التى بنى عليها، فإن لم يتفقا، بعثتهما مع ثالث له خبرة بالحال وقدرة على الإصلاح، وحلفته اليمين المبينة فى المادة (٨) . وإذا اختلفوا أو لم يقدموا تقريرهم فى الميعاد المحدد، سارت المحكمة فى الإثبات، وإن عجزت المحكمة عن التوفيق بين الزوجين وتبين لها استحالة العشرة بينهما وأصرت الزوجة على الطلاق قضت المحكمة بالتطليق بينهما بطلقة بائنة مع اسقاط حقوق الزوجة المالية كلها أو بعضها وإلزامها بالتعويض المناسب إن كان لذلك كله مقتضى”. وحيث إن المادة ١١ مكررا ( ثانيا ) من هذا المرسوم بقانون، تنص على مايأتى: “إذا امتنعت الزوجة عن طاعة الزوج دون حق، توقف نفقة الزوجة من تاريخ الامتناع. وتعتبر ممتنعة دون حق إذا لم تعد لمنزل الزوجية بعد دعوة الزوج اياها للعودة بإعلان على يد محضر لشخصها أو من ينوب عنها، وعليه أن يبين فى هذا الإعلان المسكن. وللزوجة الاعتراض على هذا أمام المحكمة الابتدائية خلال ثلاثين يوما من تاريخ هذا الإعلان، وعليها أن تبين فى صحيفة الاعتراض الأوجه الشرعية التى تستند إليها فى امتناعها عن طاعته، وإلا حكم بعدم قبول اعتراضها. ويعتد بوقف نفقتها من تاريخ انتهاء ميعاد الاعتراض إذا لم تتقدم به فى الميعاد. وعلى المحكمة عند نظر الاعتراض، أو بناء على طلب أحد الزوجين، التدخل لإنهاء النزاع بينهما صلحا باستمرار الزوجية وحسن المعاشرة، فإذا بان لها أن الخلاف مستحكم وطلبت الزوجة التطليق اتخذت المحكمة إجراءات التحكيم الموضحة فى المواد من ٧ إلى ١١ من هذا القانون”. وحيث إن النزاع الموضوعى يدور حول طلب الزوجة التطليق أثناء نظر اعتراضها على دعوة زوجها لها للعودة إلى مسكن الزوجية طبقا للمادة ١١ مكررا ثانيا من المرسوم بقانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٩ الخاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية؛ وكان طلبها التطليق على هذا النحو، يؤسس على أن النزاع بينها وبين زوجها قد صار عميقا وخلافهما مستحكما، وأن صدعها لازال غائرا حتى بعد التدخل لإنهاء شقاقهما صلحا، ودعوتهما إلى معاشرة تستقيم بها حياتهما، فإن سبب دعواها هذه يكون مختلفا عن طلب التطليق إعمالا لحكم المادة ٦ من هذا القانون التى ينحصر مجال تطبيقها فيما هو إيذاء من الزوج لزوجته بقول أو بفعل بما لايليق بأمثالهما؛ وكانت المادة الحادية عشرة – بما لها من صلة بالنزاع الموضوعى بحكم الإحالة إليها فى عجز المادة ١١ مكررا ثانيا – هى وحدها التى تتصل بها الدعوى الدستورية الراهنة؛ فإن نطاق هذه الدعوى ينحصر فيها. وحيث إن الفقرة الأخيرة من المادة ١١ مكررا ثانيا – المشار إليها – توجب على المحكمة عند نظر الاعتراض، أو بناء على طلب أحد الزوجين؛ التدخل لإنهاء النزاع بينهما صلحا باستمرار الزوجية وحسن المعاشرة؛ فإذا بان لها أن خلافهما صار مستحكما وشقاقهما عميقا، وطلبت الزوجة التطليق، اتخذت المحكمة إجراءات التحكيم الموضحة فى المواد من ٧ إلى ١١ من هذا القانون. وقد تناولت المادة السابعة الشروط الواجب توافرها فى الحكمين؛ وحددت المادة الثامنة البيانات التى يشتمل عليها القرار الصادر ببعثهما؛ وأوضحت المادة التاسعة طريقة عملهما؛ وبينت المادة العاشرة مايجب عليهما أن يقترحاه إذا عجزا عن الإصلاح؛ ثم فصلت المادة الحادية عشرة – المطعون عليها – الإجراءات التى يتعين على المحكمة اتباعها قبل أن تقضى بتطليق الزوجة من زوجها. وحيث إن من المقرر فى قضاء هذه المحكمة، أن حكم المادة الثانية من الدستور – بعد تعديلها فى ٢٢ من مايو سنة ١٩٨٠ – يدل على أن الدستور أوردها ليفرض بمقتضاها – واعتبارا من تاريخ العمل بهذا التعديل – قيدا على السلطة التشريعية يلزمها فيما تقره من النصوص القانونية؛ بألا تناقض أحكامها مبادئ الشريعة الإسلامية فى أصولها الثابتة – مصدرا وتأويلا – بعد أن اعتبرها الدستور مرجعا ترد إليه هذه النصوص فلا تعارضها؛ باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هى التى يكون الاجتهاد فيها ممتنعا؛ إذ هى عصية على التعديل، ولايجوز الخروج عليها، أو الالتواء بها عن معناها. وتنصب ولاية المحكمة الدستورية العليا فى شأنها على مراقبة التقيد بها؛ وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها. ولاكذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها، أو بهما معا، ذلك أن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها، ولاتمتد لسواها؛ وهى بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان؛ لضمان مرونتها وحيويتها، ولمواجهة النوازل على اختلافها تنظيما لشئون العباد بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعا؛ ولايعطل بالتالى حركتهم فى الحياة؛ على أن يكون الاجتهاد دوما واقعا فى إطار الأصول الكلية للشريعة بما لايجاوزها؛ ملتزما ضوابطها الثابتة، متحريا مناهج الاستدلال على الأحكام العملية والقواعد الضابطة لفروعها، كافلا صون المقاصد الكلية للشريعة بما تقوم عليه من حفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال. وحيث إن الطلاق وإن شرع رحمة من الله بعباده، وجعل أمره بيد الرجل باعتباره أقدر على تحكيم العقل وتبصر العاقبة؛ وكان الطلاق من فرق النكاح التى ينحل الزواج الصحيح بها بلفظ مخصوص صريحا كان أم كنائيا؛ وكان غالباً مايقع إذا ماغفا وازع الدين والخلق، وصار بنيان الأسرة متهادما، وصرحها متداعيا، ورباطها متآكلا يكاد أن يندثر؛ وكان وقوع شقاق استفحل أمره بين الزوجين انحرافا من أحدهما أو كليهما عن مقاصد الزواج، يقيم بينهما جفوة فى المعاملة لايكون العدل والإحسان قوامها، بل يذكيها التناحر، فلاتكون حياتهما إلا سعيرا يمتد أواره إلى الأسرة جميعها، فلا يؤول أمرها إلا هشيما، ولايكون إلفها ووفاقها إلا حسيرا؛ وكان خلافهما وإن صار عميقا، ونزاعهما مستحكما، لايحول دون جهد يبذل من جانبهما، أو من قبل رجلين عدلين من أهلهما إن أمكن، يسعيان بينهما معروفا، وينظران فى أمرهما ليقيما بينهما حدود الله تعالى، فإن تعذر أن يصلحا ما اختل من شئونهما، أغنى الله – إن تفرقا – كلا من سعته. بيد أن الفقهاء مختلفون فيمن يستبد حينئذ بالتفريق بينهما، ولكل وجهة هو موليها. وحيث إن أصل التحكيم عند وقوع شقاق بين الزوجين مرده إلى قوله تعالى “وإن خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما، إن الله كان عليما خبيرا”، وكان الفصل فيما إذا كان الحكمان لايكلفان إلا بأن يصلحا بين زوجين استفحل عنادهما وجفاؤهما، أم أنهما مطالبان عند إخفاقهما فى ذلك بأن يفرقا بينهما بمال أو بغير مال، رضيا أم أبيا، لايندرج تحت المسائل التى حسمتها الشريعة الإسلامية فى مبادئها الكلية المقطوع بثبوتها ودلالتها، فإن حدود مهمتهما تعد من المسائل الاجتهادية التى يتصور أن تتباين الأنظار فى شأنها، فمن نظر من الفقهاء – كأبى حنيفة وأصحابه والظاهرية والشيعة الإمامية والشافعى فى أحد قوليه – إلى أن عمل الحكمين لايجاوز سعيهما إلى التوفيق بين زوجين استحكم خلافهما، سلباهما حق التفريق إلا بتفويض من الزوج، استصحابا للأصل فى الطلاق، وهو معقود بيده إلا أن يوكل غيره فيه، ولأن الحياة الزوجية – فى رأيهم – لاتصفو من شقاق يخالطها عادة، فلا يجوز أن يكون خلافهما أيا كان مداه، سببا لحل عقدتها وفصم رابطتها. ومن نحا من الفقهاء إلى جعلهما حاكمين، كالمالكية وأحمد بن حنبل فى إحدى روايتين عنه، يخولانهما أن يقررا فى شأن الزوجين ماينتهيان إليه بعد بحثهما لأحوالهما، سواء كان قرارهما بجمعهما أم بالتفريق بينهما، على أن يتولى القاضى إمضاء حكمهما وتنفيذه. وهم يؤسسون اجتهادهم على أن الله تعالى اعتبر المبعوثين حكمين لاوكيلين، ولو أرادهما وكيلين ماقصرهما على أهله وأهلها. وبعثهما إلى الزوجين غير معلق على قبول زوجها، ولايتصور بالتالى أن يكون قد أنابهما عنه فى مهمتهما محددا إطارها. كذلك فإن اتصال الشقاق بين زوجين واطراد نزاعهما يشى بأن جذوة حياتهما تكاد أن ترتد عن مواقعها، وأن مضاراً يتعذر احتمالها أو القبول بها، صار أمرها باديا وأثرها ملحوظا، فإذا لم يتدخل زوجها لرفعها، قام الحكمان بدفعها. وحيث إن النص المطعون فيه – وفى حدود السلطة التى يملكها ولى الأمر لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية – نظر إلى الحكمين – لاباعتبارهما مخولين حق التفريق بين الزوجين، وإنما بكون بعثهما ليحيطا بمظاهر النزاع بينهما، على أن يقفا كذلك على أسبابها، ثم يحددا بعدئذ من يكون منهما مسيئا إلى الآخر، وما ينبغى أن يرفع به النزاع من فرقة دون بدل أو ببدل يكون متناسبا وقدر الإساءة أو نسبتها. ولايناقض هذا الاجتهاد من ولى الأمر حكما قطعيا، بل يقع فى دائرة المسائل الخلافية التى تتفرق الآراء من حولها، والتى لاتتقيد الحلول التشريعية المتعلقة بها بغير مايكفل للعباد مصالحهم المعتبرة شرعا، فلا تكلفهم مالا يطيقون، أو تقنطهم مما يأملون وفق مقاصد شريعتهم، وبمراعاة أصولها. وحيث إن ما ينعاه المدعى من أن النص المطعون فيه يناقض ما استقر عليه العمل من الرجوع فى المسائل التى تخلو من نص يحكمها، إلى أرجح الأقوال فى المذهب الحنفى – وهو لايقر تفريق المرأة من زوجها عند وقوع شقاق بينهما – مردود أولا: بما جرى عليه قضاء هذه المحكمة من أن أية قاعدة قانونية ولوكان العمل قد استقر عليها أمدا، لاتحمل فى ذاتها ما يعصمها عن العدول عنها، وإبدالها بقاعدة جديدة لاتصادم حكما شرعيا قطعيا وروداً ودلالة، وتكون فى مضمونها أرفق بالعباد، وأحفل بشئونهم، وأكفل لمصالحهم الحقيقية التى يجوز أن تشرع الأحكام لتحقيقها بما يلائمها، فذلك وحده طريق الحق والعدل؛ وهو خير من فساد عريض . ومن ثم ساغ الاجتهاد فى المسائل الاختلافية التى لايجوز أن تكون أحكامها جامدة بما ينقض كمال الشريعة ومرونتها، ذلك إن إعمال حكم العقل فيما لانص فيه، توصلا لتقرير قواعد عملية يقتضيها عدل الله ورحمته بين عباده، مرده أن هذه القواعد تسعها الشريعة الإسلامية، إذ هى غير منغلقة على نفسها، ولاتضفى قدسية على أقوال أحد من الفقهاء فى شأن من شئونها، ولاتحول دون مراجعتها وتقييمها وإبدال غيرها بها بمراعاة المصلحة الحقيقية التى يقوم عليها دليل شرعى. فالآراء الاجتهادية لاتجاوز حجيتها قدر اقتناع أصحابها بها، ولايسوغ بالتالى اعتبارها شرعا ثابتا متقررا لايجوز أن ينقض، وإلا كان ذلك نهيا عن التأمل والتبصر فى دين الله تعالى، وإنكارا لحقيقة أن الخطأ محتمل فى كل اجتهاد. ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد من الفقهاء، ليس بالضرورة أحق بالاتباع من اجتهاد غيره؛ وربما كان أضعف الآراء سندا، أكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة، ولو كان مخالفا لأقوال استقر عليها العمل زمنا. ومردود ثانيا: بأن الاجتهاد فى الأحكام الظنية وربطها بمصالح الناس، عن طريق الأدلة الشرعية – النقلية منها والعقلية – وإن كان حقا لأهل الاجتهاد؛ فأولى أن يكون هذا الحق مقررا لولى الأمر ، ينظر فى كل مسألة بخصوصها، بما يناسبها إخمادا للثائرة وإنهاء للتنازع والتناحر وإبطالا للخصومة؛ مستعينا فى ذلك كله بمن يفقهون دينهم، ولايكون عملهم إلا فهما أعمق لقواعده، وهو فى ذلك لايتقيد بالضرورة بآراء الآخرين، بل يجوز أن يشرع على خلافها، وأن ينظم شئون العباد فى بيئة بذاتها تستقل بأوضاعها وظروفها الخاصة، بما يرد الأمر المتنازع عليه إلى الله ورسوله؛ مستلهما فى ذلك حقيقة أن المصالح المعتبرة هى تلك التى تكون مناسبة لمقاصد الشريعة، متلاقية معها؛ وهى بعد مصالح لاتتناهى جزئياتها أو تنحصر تطبيقاتها؛ ولكنها تتحدد تبعا لما يطرأ عليها من تغيير وتطور . ومن ثم كان حقا عند الخيار بين أمرين مراعاة أيسرهما مالم يكن إثما؛ وكان واجبا كذلك ألا يشرع ولى الأمر حكما يضيق على الناس؛ أو يرهقهم من أمرهم عسرا؛ وإلا كان مصادما لقوله تعالى : “مايريد الله ليجعل عليكم فى الدين من حرج”. ولازم ذلك، أن الاجتهاد حق لولى الأمر فى الدائرة التى شرع فيها، ليكون كافلا وحدة الشريعة ميسرا لقواعدها؛ بإمدادها دوما بما يعين على اكتمال نمائها. وحيث إن مانص عليه الدستور فى المادة ٩ – وأحكامه متكاملة لاتنافر فيها – من أن الأسرة قوامها الدين والأخلاق والوطنية، وأن صون طابعها الأصيل وإرساء قيمها وتقاليدها ضرورة لايجوز لأحد أن ينحيها، مؤداه أن الأسرة لايصلحها شقاق استفحل مداه ومزق تماسكها ووحدتها، ودهمها بالتالى تباغض يشقيها، بما يصد عنها تراحمها وتناصفها، فلايرسيها على الدين والخلق القويم؛ وكان النص المطعون فيه – وقد أجاز التفريق بين زوجين غشيهما وأمضهما نزاع مستحكم – قد هيأ لهما مخرجا يرد عنهما كل حرج،ويزيل عسرهما، فلاتكون حياتهما وزرا وهضما، ولاعوجا وأمتا، فإنه بذلك لايكون مخالفا للدستور. وحيث إن ما ينعاه المدعى من أن النص المطعون فيه – فى مجال تطبيقه على طلب التطليق العارض المبدى أثناء نظر اعتراض الزوجة على إعلان الطاعة – لايخول المحكمة أن تفرق بين الزوجين حتى بعد تدخلها لإنهاء نزاعهما صلحا، ودعوتهما إلى حسن العشرة، بل جعل الحكم بالتطليق متوقفا على طلبها، وعائداً بالتالى إلى إرادتها، ولوثبت أن خلافها مع زوجها أظمأ حياتهما وأظلمها، مردود أولا: بأن المشرع قدر أن إنهاء الشقاق بين زوجين، يقتضى من المحكمة أن تتدخل أولا بنفسها لإصلاح أمرهما، وأن تدعوهما إلى حسن المعاشرة. فإذا بان لها أن جهدها قد قصر عن بلوغ الأغراض التى توخاها، وأن خلافهما قد أحاط بهما، وأنهما أسرفا على نفسيهما، كان عليها أن تحيل أمرهما إلى حكمين – أو ثلاثة – ينظران فى أحوالهما. بيد أن المشرع شرط للجوئها إلى التحكيم، أن تفصح الزوجة بنفسها عن اتجاه إرادتها إلى التطليق من زوجها، تقديرا بأنها قد ترجح مصلحة أسرتها حتى بعد شقاقها مع شريكها، فلاتتخلى عنها، بل تقبل صابرة على مجاهدة نفسها لتقويم عوارضها – ولو تحيفها زوجها حقا مقررا لها شرعا – فلايرتفع قيد النكاح . وتلك مصلحة مشروعة لا يجوز إسقاطها، أو التهوين منها. ومردود ثانيا :بأن العقيدة الإسلامية قوامها خلقاً متكاملاً وسلوكاً متسامياً، وأعمق فضائلها أن يكون المؤمن منصفا خيرا فطنا، معاونا لغيره، رءوفا بالأقربين، فلايمد يده لأحد بسوء، ولايلحق بالآخرين ضررا غير مبرر، بل يكون للحق عضداً، وللمروءة نصيرا، ولإباء النفس وشممها ظهيرا. وما الزواج إلا علاقة نفسية واجتماعية يرتهن بقاؤها بمودتها ورحمتها، باعتدالها ويقظتها، بعدلها وإحسانها. وتمزيق أوصالها بالشحناء، إيهان لها؛ ومروق عن حقيقتها. وكلما استبد الرجل بزوجه وأرهقها صعودا بما يجاوز حد احتمالها، فإن طلبها التفريق منه يكون جزاءً وفاقا.وإذا كان عتو خلافهما، قد أحال مسراه ضلالا، أفلاتستجير من بأسائها بطلبها التفريق من زوجها، ثم الإصرار عليه. ومردود ثالثا: بأن تعليق الحكم بالتطليق على اصرارها على طلب الخلاص من زوجها، يتمحض قيدا على سلطة المحكمة فى التفريق بينهما، وهو ماتتحقق به مصلحته فى النزاع الموضوعى. فلهذه الأسباب حكمت المحكمة برفض الدعوى وألزمت المدعى المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى