حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٣٧ لسنة ١٥ دستورية

حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٣٧ لسنة ١٥ دستورية
تاريخ النشر : ١٥ – ٠٨ – ١٩٩٦

منطوق الحكم : عدم دستورية

مضمون الحكم : بشأن عدم دستورية ما نصت عليه الفقرة من المادة ١٥٦ من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم ٥٣ لسنة ١٩٦٦ من عدم جواز وقف تنفيذ عقوبة الغرامة

الحكم

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة فى يوم السبت ٣ أغسطس سنة ١٩٩٦ الموافق ١٨ ربيع الأول سنة ١٤١٧ه
برئاسة السيد المستشار الدكتور / عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: – الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وسامى فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد عبد القادر عبد الله
وحضور السيد المستشار / سعيد مرعى عمرو عضو هيئة المفوضين
وحضور السيد / حمدى أنور صابر أمين السر
أصدرت الحكم الآتى

فى القضية المقيدة بجدول
المحكمة الدستورية العليا
برقم ٣٧لسنة ١٥قضائية دستورية
المقامة من

السيد الدكتور / سامى منصور أحمد
ضد
١ – السيد / وزير العدل
٢ – السيد الدكتور / رئيس مجلس الوزراء
٣ – السيد / وزير الزراعة واستصلاح الأراضى
الإجراءات

بتاريخ ١٩ ديسمبر سنة ١٩٩٣، أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالباً فى ختامها الحكم بعدم دستورية ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة (١٥٦) من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم ٥٣ لسنة ١٩٦٦ المعدل بالقانون رقم ١١٦ لسنة ١٩٨٣، من عدم جواز الحكم بوقف تنفيذ عقوبة الغرامة فى جميع الأحوال.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة ، طلبت فى ختامها الحكم برفض الدعوى .
وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة
حيث أن الوقائع – على مايبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن النيابة العامة كانت قد اتهمت الدكتور / سامى منصور أحمد، بأنه أقام بناء على أرض زراعية بدون ترخيص، وطلبت عقابة بالمادتين (١٥٢، ١٥٦) من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم ٥٣ لسنة ١٩٦٦ المعدل بالقانون رقم ١١٦ لسنة ١٩٨٣، وقيدت الواقعة جنحه تحت رقم ٢٧٢٤ لسنة ١٩٩٠ جنح عابدين. وإذ قضى فيها غيابياً من محكمة عابدين الجزئية دائرة الجنح بمعاقبته بالحبس شهراً وكفالة خمسين جنيهاً وبتغريم عشرة آلاف جنيه والإزالة ، فقد طعن فى هذا الحكم بالمعارضة . بيد أن محكمة الطعن قضت بتأييد الحكم المعارض فيه، فاستأنف حكمها أمام محكمة الجنح المستأنفة ، ثم دفع أمامها بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة (١٥٦) من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم ٣ ٥ لسنة ١٩٦٦، وذلك فيما نصت عليه فى عجزها من عدم جواز الحكم بوقف تنفيذ عقوبة الغرامة . وإذ قررت محكمة الجنح المستأنفة بجلستها المعقودة فى ١٠ / ١١ / ١٩٩٣، تأجيل نظر الدعوى الجنائية المعروضة عليها لجلسة ٢٩ / ١٢ / ١٩٩٣، ليتخذ وكيل المتهم إجراءات الطعن بعدم الدستورية كطلبه، وتقديم ما يفيد ذلك، فقد أقام الدعوى الماثلة .
وحيث إن الفقرة الأولى من المادة (١٥٦) من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم ٥٣ لسنة ١٩٦٦ تنص على أن يعاقب على مخالفة أى حكم من أحكام المادة (١٥٢) من هذا القانون أو الشروع فيها بالحبس وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسين ألف جنيه وتتعدد العقوبة بتعدد المخالفات. كما تنص فقرتها الثانية على ما يأتى ويجب أن يتضمن الحكم الصادر بالعقوبة ، الأمر بإزالة أسباب المخالفة على نفقة المخالف. وفى جميع الأحوال لا يجوز الحكم بوقف تنفيذ عقوبة الغرامة .
وحيث إن المدعى ينعى على الفقرة الثانية المشار إليها، مخالفتها للمواد (٨٦، ١١٩ / ١، ١٦٥، ١٦٦) من الدستور، وذلك فيما نصت عليه من أن الحكم الصادر بالعقوبة المنصوص عليها بالفقرة الأولى من المادة (١٥٦) من قانون الزراعة ، لايجوز فى أية حال أن يتضمن وقف تنفيذ عقوبة الغرامة ، مؤسساً منعاه على دعامتين:
أولاهما: أن تقدير العقوبة ، بما فى ذلك وقف تنفيذها – من سلطة القاضى . والاختصاص المقرر دستورياً للسلطة التشريعية فى مجال إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها، لا يخولها التدخل فى عقيدة القاضى ، وغل يده عن استعمال سلطته فى إنزال العقوبة أو تقديرها. ومن ثم يمثل النص المطعون فيه حجراً على حرية القاضى فى أن يقدر لكل جريمة العقوبة التى تناسبها بما يعد افتئاتاً من السلطة التشريعية على السلطة القضائية ، وتدخلاً فى شئون العدالة .
ثانيتهما: أن السلطة التشريعية تمارس ولايتها فى مجال إقرار القوانين، غير مقيدة فى ذلك إلابالضوابط التى ألزمها الدستور بمراعاتها. وتنظيمها لموضوع على خلافها، يعنى إهدارها أحكام الدستور، فضلاً عن أن السياسة التى انتهجها قانون الزراعة لمواجهة صور العدوان على الأرض الزراعية ، لم تكن غايتها الردع أو الإيلام، بل كانت الأغراض التمويلية ، هى التى استلهمها، ضماناً لأن يوفر الموارد التى يقتضيها دعم الأغراض التى تقوم عليها الهيئة العامة المنصوص عليها فى المادة (١٩٥) من هذا القانون، والتى تعمل على صون الأراضى الزراعية سواء من خلال إعادة خصوبتها بعد تجريفها أو عن طريق تحسينها وزيادة معدل كفاءتها، بما مؤداه: إنشاء ضريبة بغير قانون ضرائبى ينظم أوضاعها.
وحيث إن المصلحة فى الدعوى – وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية – مناطها أن يقوم ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى الدعوى الموضوعية ، وذلك بأن يكون الحكم الصادر فى المسألة الدستورية ، لازماً للفصل فى الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع، وكان الحكم بعدم دستورية النص المطعون فيه يوفر للمدعى مصلحة محتمله فى أن تأمر محكمة الموضوع بوقف تنفيذ عقوبة الغرامة التى نص عليها قانون الزراعة ، فيما إذا انتهت إلى إدانته عن الجريمة التى تضمنها قرار الاتهام، فإن مصلحته الشخصية والمباشرة فى النزاع الماثل، تكون قد توافرت.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم ٥٣ لسنة ١٩٦٦، قد نظم البناء على الأرض الزراعية ، موازناً فى ذلك بين أمرين:
أولهما: – ألا يقع عدوان عليها يخرجها عن الأغراض المقصودة من استغلالها فى أغراض التنمية بوصفها من أهم روافدها وأولاها بالاعتبار، وعلى تقدير أن اقتطاع أجزاء منها للبناء عليها دون ضابط، يؤول بالضرورة إلى إلتهام الجزء الأكبر من مساحتها أو على الأقل تقليصها، فلا توفر الدولة لمواطنيها – من خلالها – احتياجاتهم الغذائية وفرصهم فى العمل، مما يزيد من أعبائها، ويُعجزها عن مواصلة خطاها التى تحقق بها تقدماً أعمق، ورخاء أبعد أثراً.
ثانيهما: – أن البناء على الأرض الزراعية وإن كان محظوراً فى الأصل، إلا أن هذا الحظر ليس مطلقاً، بل يتعين أن تقدر الضرورة بقدرها، وأن يكون الفصل فى توافرها أو تخلفها عائداً إلى ترخيص يصدر عن وزير الزراعة ، ليكون البناء على الأرض الزراعية مشروطاً بصدوره. وليس ذلك عدواناً على ملكيتها يحول دون استعمالها واستغلالها، بل هو تنظيم لوظيفتها الاجتماعية ، لتظل الأرض الزراعية فى يد أجيال يتعاقبون عليها، ويضيفون إليها، فلا تندثر عناصرها.
وحيث إن لكل جزاء جنائى أثراً مباشراً يرتد إلى طبيعته، يتمثل فى حرمان الشخص من حقه فى الحياة أو من حريته أو من ملكه ؛ وكان منطقياً بالتالى ، أن تقيم الدول المتحضرة تشريعاتها الجزائية وفق أسس ثابتة ، تكفل بذاتها انتهاج الوسائل القانونية السليمة سواء فى جوانبها الموضوعية أو الإجرائية ، لضمان ألا تكون العقوبة أداة عاصفة بالحرية ، تقمعها أو تقيدها بالمخالفة للقيم التى تؤمن بها الدول الديموقراطية فى ارتباطها بالمقاييس المعاصره لمفهوم الجزاء، ومن خلال ما يعكسها من مظاهر سلوكها على اختلافها ؛ وكان لازماً على ضوء هذا الاتجاه، أن تقرر الدساتير التقدمية القيود التى ارتأتها على سلطة المشرع فى مجال التجريم، تعبيراً عن إيمانها بأن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها فى غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، وإعترافاً منها بأن الحرية فى أبعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة ، وأن الحقائق المريرة التى عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها، تفرض نظاماً متكامل الملامح يكفل للجماعة مصالحها الحيوية ، ويصون – فى إطار أهدافه – حقوق الفرد وحرياته الأساسية ، بما يحول دون إساءة استخدام العقوبة ، تشويها لأغراضها.
وحيث إن العقوبة التى يفرضها المشرع فى شأن جريمة حدد أركانها، تبلور مفهوماً للعدالة يتحدد على ضوء الأغراض الاجتماعية التى تستهدفها، والتى لا يندرج تحتها رغبة الجماعة أو حرصها على إرواء تعطشها للثأر والانتقام، أو سعيها ليكون بطشها بالمتهم تكفيراً عما أتاه، وإن أمكن القول إجما لاً بأن ما يعتبر جزاءً جنائياً، لا يجوز أن يقل فى مداه عما يكون لازماً لحمل الفرد على أن ينتهج طريقاً سوياً، لا تكون الجريمة مدخلاً إليه، ولا يكون إرتكابها فى تقديره – إذا ما عقد العزم عليها – أكثر فائدة من تجنبها.وسواء أكان هذا الجزاء مؤدياً لتقويم من أصابهم، أو كافلاً ردع غيرهم، أو مباعداً بين الجناة ومجتمعهم، ليكون الآخرون أكثر أمناً وإطمئناناً، أو كان كل ذلك جميعاً، فإن كثيرين – من الفقهاء يقارنون بين نوعين من الردع The Real goal of deterrence أحدهماردع عام، ويتمثل فى العقوبة التى يفرضها المشرع فى شأن الأفعال التى أثمها، محدداً عقوبتها، ومتدرجاً بوطأتها على ضوء خطورتها، ليَحْمِل من خلال عبئها جناة محتملين potential offenders على الإعراض عن إتيانها وانتباذها. وثانيهما ردع خاص يتحقق فى شأن جريمة تم إرتكابها ونسبتها إلى شخص معين، ليحدد قاض نطاق مسئوليتة عنهاOffender level of blameworthness، ويقدر عقوبتها تفريداً لها عند الحكم بها The individualized consideration of sentencing ضماناً لتناسبها مع الجريمة التى أتاها، وكرد فعل لها A proportionate response to the crime . ومن ثم لا يتعلق هذا النوع من الردع باحتمال تحقق خطورة إجرامية ، بل بأفعال تم إرتكابها تقوم بها خطورة فعلية .
ولا تعدو هذه الصورة من صور الردع، أن تكون تعبيراً عن مفهوم الجزاء – من منظور اجتماعى – باعتباره عقاباً منصفاً قدره قاض لشخص معين فى شأن جريمة أتاها، فلا يحدد عقوبتها جزافاً، بل من خلال علاقة منطقية تربطها مباشرة بمن ارتكبها، لتقابل حدود مسئوليته جنائياً عنها، وبقدرها، بما يؤكد معقوليتها.
The heart of the retribution rationale is that a criminal sentence must be directly related to the personal culpability of the criminal offender .
وحيث إن ماتقدم مؤداه: أنه سواء أكانت العقوبة التى فرضها المشرع – وبالنظر إلى أهدافها الاجتماعية – غايتها تحقيق ردع خاص، أم كانت تعبيراً عن مفهوم متطور للجزاء باعتباره عقاباً منصفاً لأشخاص أتوا أفعالاً جرمها المشرع، فإن تقديرها من خلال تفريدها يتعلق بعوامل موضوعية تتصل بالجريمة فى ذاتها، وبعناصر شخصية تعود إلى مرتكبها، بما مؤداه: قيام علاقة حتمية بين سلطة القاضى فى تفريد العقوبة ، وتناسبها مع الجريمة ، وارتباطهما معاً بمباشرة الوظيفة القضائية اتصالاً بجوهر خصائصها. ولا يجوز بالتالى أن يقيد المشرع من نطاق هذه الوظيفة عن طريق التدخل فى مكوناتها، تقديراً بأن الجرائم لا تتحد فى خطورتها، ولأن المتهمين لاتتجانس خصائص تكوينهمHeterogenous ولا تتحد بيئتهم، بل يتمايزون على الأخص من حيث تعليمهم و ثقافتهم، وقدر ذكائهم واستقلالهم، وتدرج نزعتهم الإجرامية بين لينها أو إعتدالها أو غلوها أو إيغالها. ويستحيل بالتالى معاملتهم بوصفهم نمطاً ثابتاً، أو النظر إليهم باعتبار أن صورة واحدة تجمعهم لتصبهم فى قالبها، بما مؤداه: أن الأصل فى العقوبة هو تفريدهاIndividualization of punishment لا تعميمها Generalization of punishment . وتقرير استثناء من هذا الأصل – أياً كانت الأغراض التى يتوخاها – مؤداه: أن المذنبين جميعهم تتوافق ظروفهم Homogenous وأن عقوبتهم يجب أن تكون واحدة لا تغاير فيها، وهو مايعنى إيقاع جزاء فى غير ضرورة – وبصورة مجردة – ليجر ألواناً من المعاناة تخالطها آلام تفتقر لمبرراتها، بعد أن فقدت العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتها، بما يقيد الحرية الشخصية دون مقتض. كذلك فإن اعتبار المتهمين نظراء بعضهم لبعض سواء فى نوع جريمتهم أو دوافعها أو خلفيتها، لا يعدو أن يكون إخلالاً بشرط الوسائل القانونية السليمة التى لا يتصور فى غيبتها أن يكون للحق فى الحياة ، أو فى الحرية ، من قيمة لها اعتبارها. ولازم ماتقدم أن مشروعية العقوبة من زاوية دستورية ، مناطها أن يباشر كل قاضٍ سلطته فى مجال التدرج بها وتجزئتها، تقديراً لها، فى الحدود المقررة قانوناً. فذلك وحده الطريق إلى معقوليتها وإنسانيتها جبراً لآثار الجريمة من منظور موضوعى يتعلق بها وبمرتكبها.
وحيث إن الدستور أعلى قدر الحرية الشخصية ، فاعتبرها من الحقوق الطبيعية الكامنة فى النفس البشرية ، الغائرة فى أعماقها، والتى لا يمكن فصلها عنها، ومنحها بذلك الرعاية الأو فى والأشمل توكيداً لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق فى تنظيمها، وبمراعاة أن القوانين الجنائية قد تفرض على هذه الحرية – بطريق مباشر أو غير مباشر – أخطر القيود وأبلغها أثراً ؛ وكانت دستورية النصوص الجنائية تحكمها مقاييس صارمة تتعلق بها وحدها، ومعايير حادة تلتئم مع طبيعتها، ولا تزاحمها فى تطبيقها ما سواها من القواعد القانونية ؛ وكان الدستور يكفل للحقوق التى نص عليها، الحماية من جوانبها العملية ، لا من معطياتها النظرية ؛ وكان الاختصاص المقرر دستورياً للسلطة التشريعية فى مجال إقرار القوانين، وما يتصل بها من إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها، لا يخولها التدخل فى أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية واختصها بها، وإلا كان مفتئتاً على ولايتها؛ وكان اختصاص السلطة القضائية بالفصل فى المنازعات المطروحة عليها، يقتضيها أن تباشر فى شأنهاكل الحقوق التى يمكن ربطها عقلاً بالوظيفة القضائية ، فلا تنفصل عنها باعتبارها من دخائلها؛ متى كان ذلك، فإن تعطيل السلطة التشريعية لهذه الوظيفة – ولو فى بعض جوانبها – يعتبر تحريفاً لها، واقتحاماً مخالفاً للدستور، للحدود التى فصل بها بينها وبين السلطة القضائية .
وحيث إن النص المطعون فيه، وأن فرض الحبس والغرامة معاً فى شأن الإخلال بالأحكام التى تضمنتها المادة (١٥٢) من قانون الزراعة ، إلا أنه مايز بين هاتين العقوبتين الأصليتين فى مجال وقف التنفيذ، فبينما أجازه فى عقوبة الحبس، حظره على إطلاق فى عقوبة الغرامة ، رغم كونها جزاءً جنائياً حقيقياً، ليحول دون تفريدها، ضماناً لتنفيذها فى كل الأحوال – وأيا كان مبلغها – وعن طريق الإكراه البدنى عند الاقتضاء، وهو مايعنى انقلابها إلى عقوبة سالبة لحرية المحكوم عليهم بها، مع بقاء كامل الآثار الجنائية المترتبة على الحكم فى حقهم، بما مؤداه: تغليظ عقوبتهم، وتطبيقها وفق آلية عمياء لا تقيم وزناً لظروفهم، ولا توفر لهم فرص تقويم إعوجاجهم، بل تردهم عن مجتمعم وتمهد الطريق لعودتهم إلى الإجرام، فلا يكون النص المطعون فيه – وقد عطل سلطة القاضى فى نطاق وقف تنفيذ عقوبة الغرامة – أصلح لهم، بل يكون القانون الأصلح هو ذلك الذى يعيد للقاضى هذه السلطة بعد إلغائها.
وحيث إن السلطة التى يباشرها القاضى فى مجال وقف تنفيذ العقوبة ، فرع من تفريدها؛ وكان التفريد لا ينفصل عن المفاهيم المعاصرة للسياسة الجنائية ، ويتصل بالتطبيق المباشر لعقوبة فرضها المشرع بصورة مجردة ، شأنها فى ذلك شأن القواعد القانونية جميعها، ولا يتصور بالتالى أن يكون إنزالها بنصهاعلى الواقعة الإجرامية محل التداعى ، ملائماً لكل أحوالها ومتغيراتها وملابساتها ؛ وكان ما يراه القاضى مسوغاً لاعتقاده بأن المحكوم عليه لن يعود مستقبلاً إلى مخالفة القانون، سواء بالنظر إلى سنة أو خلقه أو ماضيه أو طبيعة الجريمة التى ارتكبها، وظروفها، مبناه عناصر واقعية يمحصها تحرياً لحقيقتها، فلا ينتزعها، بل يلحظها ويقيمها على دعائم من القرائن وعيون الأوراق، ليقدر على ضوئها جميعاً، عقوبتها – سواء فى نوعها أو قدرها – وبما لا إخلال فيه بالحدود المقررة قانوناً لها؛ وكان تنفيذ العقوبة المحكوم بها، أو الأمر بإيقافها، مما يدخل فى تحديد مبلغها، بل أن تنفيذها – وليس مجرد نوعها أو مدتها – هو الذى يحقق الإيلام المقصود بها، ليتهيأ بتطبيقها خطر الاتصال بمذنبين آخرين ربما كانوا أكثر عتواً و أفدح إجراماً.
متى كان ذلك، فإن سلطة تفريد العقوبة – ويندرج تحتها الأمر بإيقافها – هى التى تخرجها من قوالبها الصماء، وتردها إلى جزاء يعايش الجريمة ومرتكبها، ويتصل بهما اتصال قرار.
وحيث إن من الثابت كذلك، أن تفريد عقوبة الغرامة – وهو أكثر مرونة من تفريد العقوبة السالبة للحرية – يجنبها عيوبها باعتباره كافلاً عدالتها، ميسراً تحصيلها، حائلاً دون أن تكون وطأتها على الفقراء أثقل منها على الأغنياء ؛ وكان فرض تناسبها فى شأن جريمة بذاتها، إنصافاً لواقعها وحال مرتكبها The relevant facets of the character and record of the individual offender، يتحقق بوسائل متعددة يندرج تحتها أن يفاضل القاضى – وفق أسس موضوعية – بين الأمر بتنفيذها أو إيقافها. ولئن كان النص المطعون فيه قد أجاز ذلك بالنسبة إلى عقوبة الحبس، إلا أنه سلب القاضى هذه السلطة ذاتها فى شأن عقوبة الغرامة ، التى لا تتكافأ مع العقوبة المقيدة للحرية فى تهوينها من قدر الإنسان ومساسها بآدميته، بل هى دونها تجريحاً، وهو مايعنى – فى نطاق النزاع الماثل – الإخلال بخصائص الوظيفة القضائية ، وقوامها فى شأن الجريمة محل الدعوى الجنائية ، تقدير العقوبة التى تناسبها، باعتبار أن ذلك يعد مفترضاً أولياً متطلباً دستورياً لصون موضوعية تطبيقها.
A constitutional prerequisite to the proportionate imposition of penalty .
وحيث إنه فضلاً عما تقدم، لا يجوز للدولة – فى مجال مباشرتها لسلطة فرض العقوبة صوناً لنظامها الاجتماعى – أن تنال من الحد الأدنى لتلك الحقوق التى لايطئمن المتهم فى غيابها إلى محاكمة تتم إنصافاً، غايتها إدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة وفقاً لمتطلباتها التى بينتها المادة (٦٧) من الدستور؛ وكان من المقرر أن شخصية العقوبة وتناسبها مع الجريمة محلها مرتبطتان بمن يكون قانوناً مسئولاً عن إرتكابها على ضوء دوره فيها، ونواياه التى قارنتها، وما نجم عنها من ضرر، ليكون الجزاء عنها موافقاً لخياراته بشأنها. متى كان ذلك، وكان تقدير هذه العناصر جميعها، داخلاً فى إطار الخصائص الجوهرية للوظيفة القضائية ، باعتباره من مكوناتها؛ فإن حرمان من يباشرونها من سلطتهم فى مجال تفريد العقوبة بما يوائم بين الصيغة التى أفرغت فيها ومتطلبات تطبيقها فى حالة بذاتها مؤداه: بالضرورة أن تفقد النصوص العقابية اتصالها بواقعها، فلا تنبض بالحياة ، ولا يكون إنفاذها إلا عملاً مجرداً يعزلها عن بيئتها دالاً على قسوتها أو مجاوزتها حد الاعتدال، جامداً فجاً منافياً لقيم الحق والعدل.
وحيث إن حصيلة الغرامات المحكوم بها وفقاً للنص المطعون فيه، وإن كانت تؤول جميعها بقوة القانون إلى الهيئة العامة المنصوص عليها فى المادة (١٥٩) من قانون الزراعة ، لتعيد بها إلى الأرض الزراعية خصوبتها بعد تجريفها أو لتعمل من خلالها على تحسينها وزيادة معدل كفاءتها وإنتاجيتها. إلا أن اعتماد هذه الهيئة على تلك الغرامات، لايجوز أن ينقض حقوقاً أصيلة كفلها الدستور للسلطة القضائية واختصها بها، ولا أن يعدل من بنيانها، كتلك التى تتعلق بتفريد العقوبة لتطويعها من منظور موضوعى يبلور تناسبها مع الجريمة محلها واتساقها وأحوال مرتكبها، فلا تهيم فى فراغ، ولا تكون إنفاذاً حرفياً للنصوص التى فرضتها، بما يحيل تطبيقها عدواناً على كرامة الإنسان وحريته، وهما تضربان بجذورهما عمقاً صوناً لآدميته، وتعلوان قدراً على مجرد الأغراض المالية ، ولا يتصور بالتالى أن تكون هذه الأغراض قيداً على أيتهما.
وحيث إن النص المطعون فيه – وعلى ضوء ماتقدم – يكون قد أهدر من خلال إلغاء سلطة القاضى فى تفريد العقوبة – جوهر الوظيفة القضائية ، منطوياً كذلك على تدخل فى شئون العدالة ، مقيداً الحرية الشخصية فى غير ضرورة ، ونائياً عن ضوابط المحاكم المنصفة ، ليقع مخالفاً لأحكام المواد (٤١، ٦٧، ١٦٥، ١٦٦) من الدستور.
فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة (١٥٦) من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم ٥٣ لسنة ١٩٦٦ من عدم جواز وقف تنفيذ عقوبة الغرامة ، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة .

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى