حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ١٥٣ لسنة ٢١ دستورية

حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ١٥٣ لسنة ٢١ دستورية
تاريخ النشر : ١٧ – ٠٦ – ٢٠٠٠

منطوق الحكم : عدم دستورية

مضمون الحكم : بشأن عدم دستورية القانون رقم ١٥٣ لسنة ١٩٩٩ باصدار قانون الجمعيات و المؤسسات الأهلية

الحكم

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت ٣ يونيه سنة ٢٠٠٠ الموافق ٣٠ صفر سنة ١٤٢١هـ .
برئاسة السيد المستشار / محمد ولى الدين جلال رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين / فاروق عبد الرحيم غنيم وحمدى محمد علي والدكتور عبد المجيد فياض وماهر البحيرى ومحمد على سيف الدين وعدلى محمود منصور .
وحضور السيد المستشار / عبد الوهاب عبد الرازق رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / ناصر إمام محمد حسن أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
فى القضية المقيدة بجدول
المحكمة الدستورية العليا
برقم ١٥٣ لسنة ٢١ قضائية دستورية
بعد أن أحالت محكمة القضاء الإداري بطنطا بحكمها الصادر بجلسة ٢٧ / ٧ / ١٩٩٩ ملف الدعوي رقم ٤٤٦٨ لسنة ٦ قضائية
المقامة من

١ – السيد / حمدي محمد عامر خضر
٢ – السيد / محمد حسين راغب عطيه
٣ – السيد / سعيد الدسوقى بدوى بدير
٤ – السيد / وحيد طه أحمد الفلال
٥ – السيد / السيد عامر حسن السخاوى
ضد
١ – السيد محافظ المنوفية
٢ – السيد وكيل وزارة الشئون الاجتماعية بالمنوفية
الإجراءات

بتاريخ التاسع عشر من أغسطس سنة ١٩٩٩، ورد إلى المحكمة ملف الدعوى رقم ٤٤٦٨ لسنة ٦ قضائية ، بعد أن قضت محكمة القضاء الإدارى بطنطا بجلسة ٢٧ / ٧ / ١٩٩٩ بوقف الدعوى وإحالة الأوراق إلى
المحكمة الدستورية العليا
للفصل فى دستورية المادة الثانية من القانون رقم ١٥٣ لسنة ١٩٩٩ بإصدار قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية .
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فى ختامها الحكم برفض الدعوى .
وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة .
حيث إن الوقائع – على ما يبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق – تتحصل فى أن المدعين كانوا قد أقاموا الدعوى رقم ٤٤٦٨ لسنة ٦ قضائية أمام محكمة القضاء الإدارى بطنطا بطلب الحكم بوقف تنفيذ وإلغاء قرار مديرية الشئون الاجتماعية بطنطا باستبعادهم من الترشيح لعضوية مجلس إدارة الجمعية الشرعية بقرية أبو مشهور مركز بركة السبع وما يترتب على ذلك من آثار، تأسيساً على أن اعتراض جهة الأمن – الذى قام عليه قرار الاستبعاد – قد خلا من وقائع محددة بعينها منسوب إليهم ارتكابها، مما يفقد القرار المطعون فيه سببه الصحيح، ويجعله مشوباً بعيب إساءة استعمال السلطة ؛ فقررت تلك المحكمة بجلستها المعقودة بتاريخ ٢٧ / ٧ / ١٩٩٩ وقف الدعوى وإحالتها للمحكمة الدستورية العليا للفصل فى دستورية نص المادة الثانية من القانون رقم ١٥٣ لسنة ١٩٩٩ بإصدار قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية ، وذلك لما تراءى لها من أن نص هذه المادة إذ اختص المحكمة الإبتدائية بنظر المنازعات الناشئة عن هذا القانون بين الجهة الإدارية والجمعيات والمؤسسات الأهلية – مع أنها أنزعة إدارية – يكون قد استلب الاختصاص المعقود لمجلس الدولة فى شأنها، بحسبانه صاحب الولاية العامة فى المنازعات الإدارية على اختلاف صورها، وقاضيها الطبيعى ، مما يقيم شبهة مخالفته لأحكام المادتين (٨٦، ١٧٢) من الدستور.
وحيث إن المادة الثانية من القانون رقم ١٥٣ لسنة ١٩٩٩ بإصدار قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية تنص على أنه مع عدم الإخلال بأحكام القرار بالقانون رقم ٩١ لسنة ١٩٧١، يقصد بالجهة الإدارية فى تطبيق أحكام القانون المرافق وزارة الشئون الاجتماعية ، كما يقصد بالمحكمة المختصة ، المحكمة الإبتدائية الواقع فى دائرة اختصاصها مركز إدارة الجمعية أو المؤسسة الأهلية أو الاتحاد العام أو النوعى أو الإقليمى بحسب الأحوال.
وحيث إن البين من القانون المشار إليه، أن المادة الثالثة من مواد إصداره قد حظرت على أية جهة خاصة أن تمارس أى نشاط مما يدخل فى أغراض الجمعيات والمؤسسات الأهلية ، دون أن تتخذ شكل الجمعية أو المؤسسة الأهلية وفقاً لأحكامه. وعرّفت المادة (١) من القانون الجمعية بأنها كل جماعة ذات تنظيم مستمر لمدة معينة أو غير معينة تتألف من أشخاص طبيعيين أو أشخاص اعتبارية ، أو منهما معاً، لا يقل عددهم فى جميع الأحوال عن عشرة ، وذلك لغرض غير الحصول على ربح مادى . وحدد القانون الأحوال التى يمتنع فيها على الأفراد المشاركة فى تأسيس الجمعيات، وأدرج كذلك البيانات التى يجب أن يشتمل عليها نظامها الأساسى ، والذى تَثْبُت للجمعية – بإجراء قيد ملخصه فى السجل المعد لذلك لدى الجهة الإدارية المختصة – شخصيتها الاعتبارية ، وأنشأ لجنة يتم تشكيلها سنوياً بقرار من وزير العدل بدائرة اختصاص كل محكمة إبتدائية ، جعل المشرع اللجوء إليها ابتداء شرطاً لقبول الدعوى – بشأن المنازعات الناشئة عن تطبيق أحكامه بين الجمعية والجهة الإدارية – أمام تلك المحكمة التى اختصها النص الطعين بالفصل فى هذه المنازعات، وقد تضمنت المواد (٦، ٧، ٨، ٢٣، ٣٤، ٤٢، ٤٦، ٦٢) منه القواعد المتعلقة بالتداعى فى شأنها ونظرها، كما عيّن ذلك القانون الأغراض التى يجب أن تعمل الجمعية على تحقيقها مبيناً ما هو محظور عليها منها، وحدد ماخوله لها من حقوق وما حملها به من إلتزامات، ورسم لها الأجهزة التى تتولى إدارتها وتصريف شئونها، موضحاً لكل منها مهامها، والأعمال التى حظر على أعضاء مجلس الإدارة القيام بها، كما تضمن القانون القواعد التى تحكم حل الجمعية وتصفية أموالها، وأفرد للجمعيات ذات النفع العام أحكاماً خاصة طواها على مامنحه إياها من امتيازات السلطة العامة ، وتناولت أحكامه – كذلك – إنشاء المؤسسات الأهلية وأسلوب إدارتها، وأحوال حلها وتصفيتها، كما نظمت الإتحادات النوعية والاقليمية التى تقوم الجمعيات والمؤسسات الأهلية بإنشائها فيما بينها، وكذلك الاتحاد العام للجمعيات والمؤسسات الأهلية الذى يجمع الإتحادات المذكورة فى عضويته، وخوّل القانون للجهة الإدارية المختصة حق الإشراف على تلك الجمعيات وتوجيهها والرقابة عليها، وسوّغ لها الاعتراض على ماتُقَدِّر أنه مخالف لأحكامه من قراراتها وتصرفاتها، وذلك وفقاً للقواعد وطبقاً للإجراءات المبينة فيه، وعُِنى – أخيراً – بتحديد الجرائم الناشئة عن مخالفة أحكامه وتقرير عقوباتها.
وحيث إنه من المقرر – وعلى ما اطرد عليه قضاء هذه المحكمة – أن التحقق من استيفاء النصوص القانونية لأوضاعها الشكلية يعتبر أمراً سابقاً بالضرورة على الخوض فى عيوبها الموضوعية ذلك أن الأوضاع الشكلية للنصوص القانونية هى من مقوماتها، لا تقوم إلا بها ولا يكتمل بنيانها أصلاً فى غيابها، وبالتالى تفقد بتخلفها وجودها كقاعدة قانونية تتوافر لها خاصية الإلزام؛ ولا كذلك عيوبها الموضوعية ، إذ يفترض بحثها – ومناطها مخالفة النصوص القانونية المطعون عليها لقاعدة فى الدستور من زاوية محتواها أو مضمونها – أن تكون هذه النصوص مستوفية لأوضاعها الشكلية . ذلك أن المطاعن الشكلية – وبالنظر إلى طبيعتها – لا يتصور أن يكون تحريها وقوفاً على حقيقتها، تالياً للنظر فى المطاعن الموضوعية ، ولكنها تتقدمها، ويتعين على
المحكمة الدستورية العليا
أن تتقصاها – من تلقاء نفسها – بلوغاً لغاية الأمر فيها، ولو كان نطاق الطعن المعروض عليها من حصراً فى المطاعن الموضوعية دون سواها، منصرفاً إليها وحدها، ولا يحول قضاء هذه المحكمة برفض المطاعن الشكلية دون إثارة مناع موضوعية يُدَّعى قيامها بهذه النصوص ذاتها، وذلك خلافاً للطعون الموضوعية ، ومن ثم يكون الفصل فى التعارض المدعى به بين نص قانونى ومضمون قاعدة فى الدستور، بمثابة قضاء ضمنى باستيفاء النص المطعون فيه للأوضاع الشكلية التى يتطلبها الدستور فيه ومانعاً من العودة لبحثها.
وحيث إن المادة (١٩٥) من الدستور تنص على أن:
يؤخذ رأى مجلس الشورى فيما يلى :
١ – ……………….
٢ – مشروعات القوانين المكملة للدستور
٣ – ………………………
٤ _ ………………………
٥ _ ………………………
٦ _ ………………………
ويبلغ المجلس رأيه فى هذه الأمور إلى رئيس الجمهورية ومجلس الشعب. ومؤدى ذلك – وعلى ماجرى عليه قضاء هذه المحكمة – أن عرض مشروعات هذه القوانين على مجلس الشورى ليقول كلمته فيها لايكون إلا وجوبياً، فلافكاك منه
ولامحيص عنه، ولا يسوغ التفريط فيه أو إغفاله، وإلاتَقوّض بنيان القانون برمته من أساسه، فإذا تحققت المحكمة من تخلف هذا الإجراء، تعيّن إسقاط القانون المشوب بذلك العوار الشكلى بكامل النصوص التى تضمنها، ولبات لغواً – بعدئذ – التعرض لبحث اتفاق بعضها مع الأحكام الموضوعية للدستور أو منافاتها لها.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد استقر على أن ثمة شرطين يتعين اجتماعهما معاً لاعتبار مشروع قانون معين مكملاً للدستور: (أولهما) أن يكون الدستور ابتداء قد نص صراحة فى مسألة بعينها على أن يكون تنظيمها بقانون أو وفقاً لقانون أو فى الحدود التى يبينها القانون أو طبقاً للأوضاع التى يقررها، فإن هو فعل، دل ذلك على أن هذا التنظيم بلغ فى تقديره درجة من الأهمية والثقل لايجوز معها أن يُعهد به إلى أداة أدنى . (ثانيهما) أن يكون هذا التنظيم متصلاً بقاعدة كلية مما جرت الوثائق الدستورية على احتوائها وإدراجها تحت نصوصها، وتلك هى القواعد الدستورية بطبيعتها التى لا تخلو منها فى الأعم أية وثيقة دستورية ، والتى يتعين كى يكون التنظيم التشريعى مكملاً لها أن يكون محدداً لمضمونها مفصلاً لحكمها مبيناً لحدودها، بما مؤداه: أن الشرط الأول وإن كان لازماً كأمر مبدئى يتعين التحقق من توافره قبل الفصل فى أى نزاع حول ما إذا كان مشروع القانون المعروض يعد أو لا يعد مكملاً للدستور، إلا أنه ليس الشرط الوحيد، بل يتعين لاعتبار المشروع كذلك أن يقوم الشرطان معاً متضافرين استبعاداً لكل مشروع قانون لا تربطه أية صلة بالقواعد الدستورية الأصيلة ، بل يكون غريباً عنها مقحماً عليها. واجتماع هذين الشرطين مؤداه: أن معيار تحديد القوانين المكملة للدستور، والتى يتعين أن يؤخذ فيها رأى مجلس الشورى قبل تقديمها إلى السلطة التشريعية لايجوز أن يكون شكلياً صرفاً، ولاموضوعياً بحتاً، بل قوامه مزاوجة بين ملامح شكلية ، وما ينبغى أن يتصل بها من العناصر الموضوعية ، على النحو المتقدم بيانه.
وحيث إن المواثيق الدولية قد اهتمت بالنص على حق الفرد فى تكوين الجمعيات ومن ذلك المادة (٢٠) من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الذى تمت الموافقة عليه وإعلانه بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة فى ١٠ / ١٢ / ١٩٤٨، والعهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ، والذى حظر – بنص الفقرة الثانية من المادة (٢٢) – أن يوضع من القيود على ممارسة هذا الحق إلا تلك التى ينص عليها القانون وتشكل تدابير ضرورية فى مجتمع ديموقراطى لصيانة الأمن القومى أو السلام العام أو النظام العام أو حماية الصحة العامة أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرماتهم. كما عُنيت الدساتير المقارنة بالنص على هذا الحق فى وثائقها، فهو مستفاد مما تضمنه التعديل الأول الذى أُدخل على دستور الولايات المتحدة الأمريكية فى ١٥ / ١٢ / ١٧٩١ والذى قرر الحق فى الاجتماع، ونص عليه صراحة الدستور القائم فى كل من: ألمانيا والأردن وتركيا ولبنان وتونس و المغرب والكويت واليمن وسوريا والبحرين والجزائر. وجرت كذلك الدساتير المصرية المتعاقبة – ابتداء من دستور سنة ١٩٢٣، وانتهاء بالدستور الحالى – على كفالة الحق فى تأليف الجمعيات؛ وهو ما نصت عليه المادة (٥٥) من دستور سنة ١٩٧١ بقولها أن للمواطنين حق تكوين الجمعيات على الوجه المبين فى القانون ….
وحيث إن الدستور حرص على أن يفرض على السلطتين التشريعية والتنفيذية من القيود ماارتآه كفيلاً بصون الحقوق والحريات العامة – وفى الصدارة منها حرية الاجتماع – كى لاتقتحم إحداهما المنطقة التى يحميها الحق أو الحرية ، أو تتداخل معها، بما يحول دون ممارستها بطريقة فعالة ، وكان تطوير هذه الحقوق والحريات وإنماؤها من خلال الجهود المتواصلة الساعية لإرساء مفاهيمها الدولية بين الأمم المتحضرة ، مطلباً أساسياً توكيداً لقيمتها الاجتماعية ، وتقديراً لدورها فى مجال إشباع المصالح الحيوية المرتبطة بها، وقد واكب هذا السعى وعززه بروز دور المجتمع المدنى ومنظماته – من أحزاب وجمعيات أهلية ونقابات مهنية وعمالية – فى مجال العمل الجمعى .
وحيث إن منظمات المجتمع المدنى – وعلى ماجرى عليه قضاء هذه المحكمة – هى واسطة العقد بين الفرد والدولة ، إذ هى الكفيلة بالارتقاء بشخصية الفرد بحسبانه القاعدة الأساسية فى بناء المجتمع، عن طريق بث الوعى ونشر المعرفة والثقافة العامة ، ومن ثم تربية المواطنين على ثقافة الديموقراطية والتوافق فى إطار من حوار حر بناء، وتعبئة الجهود الفردية والجماعية لإحداث مزيد من التنمية الاجتماعية والاقتصادية معاً، والعمل بكل الوسائل المشروعة على ضمان الشفافية ، وترسيخ قيمة حرمة المال العام، والتأثير فى السياسات العامة ، وتعميق مفهوم التضامن الاجتماعى ، ومساعدة الحكومة عن طريق الخبرات المبذولة ، والمشروعات الطوعية على أداء أفضل للخدمات العامة ، والحث على حسن توزيع الموارد وتوجيهها، وعلى ترشيد الإنفاق العام، وإبراز دور القدوة . وبكل أولئك، تذيع المصداقية ، وتتحدد المسئولية بكل صورها فلاتشيع و لاتنماع، ويتحقق العدل والنصفة وتتناغم قوى المجتمع الفاعلة ، فتتلاحم على رفعة شأنه والنهوض به إلى ذرى التقدم.
وحيث إن من المقرر أن حق المواطنين فى تكوين الجمعيات الأهلية هو فرع من حرية الاجتماع، وأن هذا الحق يتعين أن يتمحض تصرفاً إرادياً حراً لا تتداخل فيه الجهة الإدارية ، بل يستقل عنها، ومن ثم تنحل هذه الحرية إلى قاعدة أولية تمنحها بعض الدول – ومن بينها جمهورية مصر العربية – قيمة دستورية فى ذاتها، لتكفل لكل ذى شأن حق الإنضمام إلى الجمعية التى يرى أنها أقدر على التعبير عن مصالحه وأهدافه، وفى انتقاء واحدة أو أكثر من هذه الجمعيات – حال تعددها – ليكون عضواً فيها، وما هذا الحق إلا جزء لا يتجزأ من حريته الشخصية ، التى أعلى الدستور قدرها، فاعتبرها –بنص المادة (٤١) – من الحقوق الطبيعية ، وكفل – أسوة بالدساتير المتقدمة – صونها وعدم المساس بها، ولم يجز الإخلال بها من خلال تنظيمها.
وحيث إن ضمان الدستور – بنص المادة (٤٧) التى رددت مااجتمعت عليه الدساتير المقارنة – لحرية التعبير عن الآراء، والتمكين من عرضها ونشرها سواء بالقول أو بالتصوير أو بطباعتها أو بتدوينها وغير ذلك من وسائل التعبير، قد تقرر بوصفها الحرية الأصل التى لا يتم الحوار المفتوح إلا فى نطاقها، وبدونها تفقد حرية الاجتماع مغزاها، ولا تكون لها من فائدة ، وبها يكون الأفراد أحراراً لا يتهيبون موقفاً، ولا يترددون وجلا، ولا ينتصفون لغير الحق طريقاً، ذلك إن ما توخاه الدستور من خلال ضمان حرية التعبير – وعلى ما اطرد عليه قضاء هذه المحكمة – هو أن يكون التماس الآراء والأفكار وتلقيها عن الغير ونقلها إليه غير مقيد بالحدود الإقليمية على اختلافها ولا من حصر فى مصادر بذواتها تعد من قنواتها، بل قصد أن تترامى آفاقها، وأن تتعدد مواردها وأدواتها، سعياً لتعدد الآراء، وابتغاء إرسائها على قاعدة من حيدة المعلومات ليكون ضوء الحقيقة مناراً لكل عمل، ومحوراً لكل اتجاه. بل إن حرية التعبير أبلغ ما تكون أثراً فى مجال اتصالها بالشئون العامة ، وعرض أوضاعها تبياناً لنواحى التقصير فيها، فقد أراد الدستور بضمانها أن تهيمن مفاهيمها على مظاهر الحياة فى أعماق منابتها، بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها على العقل العام، وألا تكون معاييرها مرجعاً لتقييم الآراء التى تتصل بتكوينه ولاعائقاً دون تدفقها. ومن المقرر كذلك إن حرية التعبير، وتفاعل الآراء التى تتولد عنها، لايجوز تقييدها بأغلال تعوق ممارستها، سواء من ناحية فرض قيود مسبقة على نشرها أو من ناحية العقوبة اللاحقة التى تتوخى قمعها. إذ يتعين أن ينقل المواطنون من خلالها – وعلانية – تلك الأفكار التى تجول فى عقولهم ويطرحونها عزماً ولو عارضتها السلطة العامة – إحداثاً من جانبهم – وبالوسائل السلمية – لتغيير قد يكون مطلوباً، ومن ثم وجب القول بأن حرية التعبير التى كفلها الدستور هى القاعدة فى كل تنظيم ديموقراطى ، فلا يقوم إلا بها، ولا ينهض مستوياً إلا عليها.
وحيث إن حق الاجتماع – سواء كان حقاً أصيلاً أم بافتراض أن حرية التعبير تشتمل عليه باعتباره كافلاً لأهم قنواتها، محققاً من خلاله أهدافها – أكثر ما يكون اتصالاً بحرية عرض الآراء وتداولها كلما كوّن أشخاص يؤيدون موقفاً أو اتجاها معيناً جمعية تحتويهم، يوظفون من خلالها خبراتهم ويطرحون آمالهم ويعرضون فيها كذلك لمصاعبهم، ويتناولون بالحوار
ما يؤرقهم، ليكون هذا التجمع المنظم نافذة يطلون منها على ما يعتمل فى نفوسهم، وصورة حية لشكل من أشكال التفكير الجماعى ، وكان الحق فى إنشاء الجمعيات – وسواء كان الغرض منها اقتصادياً أو ثقافياً أو اجتماعياً أو غير ذلك– لا يعدو أن يكون عملاً اختيارياً، يرمى بالوسائل السلمية إلى تكوين إطار يعبرون فيه عن مواقفهم وتوجهاتهم. ومن ثم فإن حق الاجتماع يتداخل مع حرية التعبير، مكوناً لأحد عناصر الحرية الشخصية التى لا يجوز تقييدها بغير اتباع الوسائل الموضوعية والإجرائية التى يتطلبها الدستور أو يكفلها القانون، لازماً اقتضاء حتى لو لم يرد بشأنه نص فى الدستور، كافلاً للحقوق التى أحصاها ضماناتها، محققاً فعاليتها، سابقاً على وجود الدساتير ذاتها، مرتبطاً بالمدنية فى مختلف مراحل تطورها، كامناً فى النفس البشرية تدعو إليه فطرتها، وهو فوق هذا من الحقوق التى لا يجوز تهميشها أو إجهاضها. بل إن حرية التعبير ذاتها تفقد قيمتها إذا جحد المشرع حق من يلوذون بها فى الاجتماع المنظم، وحجب بذلك تبادل الآراء فى دائرة أعرض بما يحول دون تفاعلها وتصحيح بعضها البعض، ويعطل تدفق الآراء التى تتصل باتخاذ القرار، ويعوق انسياب روافد تشكيل الشخصية الإنسانية التى لا يمكن تنميتها إلا فى شكل من أشكال الاجتماع. كذلك فإن هدم حرية الاجتماع إنما يقوّض الأسس التى لايقوم بدونها نظام للحكم يكون مستنداً إلى الإرادة الشعبية ، ومن ثم فقد صار لازماً – وعلى ما استقر عليه قضاء هذه المحكمة – امتناع تقييد حرية الاجتماع إلا وفق القانون، وفى الحدود التى تتسامح فيها النظم الديموقراطية ، وترتضيها القيم التى تدعو إليها، ولا يجوز – بالتالى – أن تفرض السلطة التشريعية على حرية الاجتماع قيوداً من أجل تنظيمها، إلا إذا حملتها عليها خطورة المصالح التى وجهتها لتقريرها، وكان لها كذلك سند من ثقلها وضرورتها، وكان تدخلها – من خلال هذه القيود – بقدر حدة هذه المصالح ومداها.
وحيث إنه يبين من جميع ما تقدم أن حق المواطنين فى تأليف الجمعيات الأهلية ، وما يستصحبه – لزوماً – مما سلف بيانه من حقوقهم وحرياتهم العامة الأخرى ، هى جميعاً أصول دستورية ثابتة ، يباشرها الفرد متآلفة فيما بينها، ومتداخلة مع بعضها البعض، تتساند معاً، ويعضد كل منها الآخر فى نسيج متكامل يحتل من الوثائق الدستورية مكاناً سامقاً.
وحيث إنه إذ كان ذلك، وكان الدستور قد عهد – بنص المادة (٥٥) – إلى القانون بتنظيم الحق فى تكوين الجمعيات، ووضع قواعد ممارسته، وكان القانون الطعين قد احتوى تنظيماً شاملاً للجمعيات والمؤسسات الأهلية ، رسم المشرع من خلاله لحق الأفراد فى إنشائها وإدارة وتصريف شئونها وإنقضائها وتصفية أموالها، أطره وأحكام مباشرته، وكان هذا التنظيم قد عرض – بالضرورة – لما يرتبط ويتصل بهذا الحق من حقوقهم العامة فى الاجتماع والحرية الشخصية وحرية التعبير عن الرأى ، فإن التنظيم الوارد بالقانون المشار إليه يكون متصلاً – من ثم – فى جوانبه تلك بهذه الأصول التى ما فتئت الوثائق الدستورية تحرص على إدراج قواعدها الكلية ضمن نصوصها، بما يضفى عليها الطبيعة الدستورية الخالصة ؛ فضلاً عما هو مقرر من أن تنظيم ولاية القضاء – والتى تناولها القانون المذكور ببعض نصوصه – تدخل ضمن المسائل التى تتصف بهذه الطبيعة أيضاً؛ متى كان ذلك، فإن القانون المطعون فيه يكون قد توافر فى شأنه العنصران الشكلى والموضوعى – المتقدم بيانهما – اللازمان لارتقائه إلى مصاف القوانين المكملة للدستور؛ وإذ كان البين من كتاب أمين عام مجلس الشورى رقم ٨٣ بتاريخ ٧ / ١١ / ١٩٩٩ المرفق بالأوراق أن هذا القانون – بوصفه كذلك – لم يعرض مشروعه على مجلس الشورى لأخذ رأيه فيه، فإنه يكون مشوباً بمخالفة نص المادة (١٩٥) من الدستور.
وحيث إنه لما كان ماتقدم، وكان العيب الدستورى المشار إليه قد شمل قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية الصادر بالقانون رقم ١٥٣ لسنة ١٩٩٩ بتمامه، فإن القضاء بعدم دستوريته برمته يكون متعيناً، وذلك دون حاجة إلى الخوض فيما اتصل ببعض نصوصه من عوار دستورى موضوعى باستلابه الأنزعة الإدارية الناشئة عنه من مجلس الدولة الذى اختصه الدستور بولاية الفصل فيها باعتباره قاضيها الطبيعى .
فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية القانون رقم ١٥٣ لسنة ١٩٩٩ بإصدار قانون الجمعيات والمؤسسات والأهلية .

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى