الطريق إلى الذكاء الاصطناعي في أعمال مهنة المحاماة

بقلم الدكتور/أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
المستشار القانوني بدائرة القضاء – أبو ظبي

في يوم الأربعاء الموافق الثالث عشر من مايو 2020م، حظيت بشرف الحديث في الندوة الافتراضية التي نظمتها أكاديمية أبو ظبي القضائية، في موضوع «الطريق إلى الذكاء الاصطناعي في أعمال مهنة المحاماة»، وشمل الحضور في هذه الندوة المستشارين والمستشارين المساعدين والمحامين بإدارة قضايا الحكومة في دائرة القضاء – أبو ظبي وكذا المحامين المتقدمين للقيد بجدول المحامين المشتغلين بالدائرة، بالإضافة إلى أعضاء الإدارات القانونية في العديد من الدوائر والهيئات والمؤسسات في إمارة أبو ظبي.

وقد بدأت حديثي في هذه الندوة ببعض العبارات الواردة في الفصل الأول من كتاب «رؤيتي.. التحديات في سباق التميز» لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم (حفظه الله)، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، حيث يقول سموه إنه «مع إطلالة كل صباح في أفريقيا يستيقظ الغزال مدركاً أن عليه أن يسابق أسرع الأسود عدواً وإلا كان مصيره الهلاك. ومع إطلالة كل صباح في أفريقيا يستيقظ الأسد مدركاً أن عليه أن يعدو أسرع من أبطأ غزال وإلا أهلكه الجوع.

لا يهم أن كنت أسداً أو غزالاً فمع إشراقة كل صباح يتعين عليك أن تعدو أسرع من غيرك حتى تحقق النجاح».

وانطلاقاً من هذه العبارات البديعة التي تلخص التحديات التي يعيشها العالم أجمع في سباق التميز وفي حلبة المنافسة التي يشهد الجميع ارهاصاتها بين الذكاء البشري الإنساني والذكاء الاصطناعي. هذا السباق وهذه المنافسة المحمومة لا تستثني مهنة من المهن أو وظيفة من الوظائف، حيث بدأت الروبوتات تشق طريقها إلى العديد من المهن التي كنا نظنها حكراً على بني البشر، كما هو الشأن في الطب والهندسة المعمارية والمحاسبة والطيران والقضاء والشرطة والتحقيقات الجنائية وغيرها.

وفيما يتعلق بمهنة المحاماة، يمكن إلقاء الضوء على الصور المختلفة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في أعمال هذه المهنة السامية التي تؤدي خدمة عامة وتشارك السلطة القضائية في تحقيق رسالة العدالة وتأكيد سيادة القانون وكفالة حق الدفاع عن الحقوق والحريات، حسب نص المادة الأولى من القانون الاتحادي رقم (23) لسنة 1991 بشأن تنظيم مهنة المحاماة.

والواقع أن المحاماة والاستشارات القانونية غدت صناعة وسوق ضخمة تصل القيمة المادية لها على مستوى العالم – حسب تقديرات البعض – إلى ما يزيد على مائتي مليار دولار. ولكن، ورغم الحجم الهائل لهذه السوق، فإن نصيب العالم العربي منها يكاد يكون معدوماً. فإذا طالعت قائمة أكبر مائة مكتب محاماة على مستوى العالم من حيث الدخل السنوي، سوف تجد أن معظمها تتبع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وبعضها عبارة عن ائتلاف مكون من عدة دول.

وقد بدأت جمهورية الصين الشعبية مؤخراً في الدخول بقوة إلى هذه السوق الواعدة، من خلال بعض المكاتب أو شركات المحاماة. وبحسب تقديرات العام 2017م، فإن المكتب الأول على مستوى العالم من حيث الدخل السنوي هو مكتب المحاماة الأمريكي (Kirkland & Ellis)، بدخل سنوي مقداره ثلاثة مليارات ومائة وخمسة وستين مليون ومائة وعشرة آلاف دولار أمريكي، ويضم ألفي محام. وفي المرتبة الثانية، يأتي المكتب الأمريكي (Latham & Watkins)، بدخل سنوي مقداره ثلاثة مليارات وثلاثة وستين مليوناً وتسعمائة واثنين وتسعين ألف دولار، ويضم (2436) محام. أما المرتبة الثالثة، فقد جاء فيها مكتب المحاماة الأمريكي (Baker McKenzie)، بدخل سنوي مقداره مليارين وتسعمائة مليون دولار أمريكي، ويضم (4.723) محام.

والوصول إلى هذه السوق الواعدة ومنافسة مكاتب المحاماة العالمية لن يتم إلا باتباع التوجيه والنصيحة الثمينة التي وردت في كتاب «رؤيتي» لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم (حفظه الله): «لا يهم إن كنت أسداً أو غزالاً فمع إشراقة كل صباح يتعين عليك أن تعدو أسرع من غيرك حتى تحقق النجاح».

فلا يهم إذن أن تمارس المحاماة من خلال شركة محاماة أو من خلال مكتبك الخاص، المهم هو أن تعدو أسرع من غيرك حتى تحقق النجاح. واعتقد أن اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي في أعمال المحاماة هو السبيل الأول نحو العدو بسرعة في طريق مهنة المحاماة.

إن مكاتب المحاماة الكبرى على مستوى العالم قد بدأت في استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل كبير، وظهر ما يسمى «المحامي الروبوت» أو «المحامي الآلي» أو «المحامي الذكي».

و«المحامي الآلي» أو «المحامي الروبوت» (Robot Lawyer) هو عبارة عن برنامج أو تطبيق الكتروني يؤدي العديد من المهام التي تنفذ عادة من قبل المحامين.

وباستقراء التجارب المختلفة في هذا الشأن، يمكن القول بأن المهام التي يقوم بها المحامي الآلي حتى تاريخه تقتصر على قراءة الوثائق وتحليل العقود والتنبيه إلى ما قد يشوبها من عيوب ونواقص، وتحديد المخاطر والمسؤوليات والالتزامات، وإعطاء دفوع قانونية بناء على الأحكام القضائية، وصياغة حجج سبق للقضاء الأخذ بها، وتكوين فرضيات بناء على الأسئلة والوقائع المدخلة. ولكن لم يتسنى حتى تاريخه بناء محام قادر على المرافعة في ساحات المحاكم. وعلى كل حال، وأياً كان المستوى الذي وصل إليه المحامي الآلي أو المحامي الروبوت، يمكن للمحامين البشريين استخدام المحامي الروبوت، لتسريع عملهم وتوفير تجربة أفضل للعملاء من خلال السماح لهؤلاء العملاء بخدمة أنفسهم عبر الإنترنت.

وفي هذا المضمار، وما دمنا نتحدث عن المحامي الالكتروني أو المحامي الروبوت، فإن الحديث لابد وأن يتطرق إلى أشهر خمسة روبوتات لتقديم الخدمات القانونية. والتطبيق الأول والأشهر في هذا المجال هو المحامي الروبوت «دونت بي» (DoNotPay)، وهو تطبيق يستخدم الذكاء الاصطناعي وكان يهدف في بداية نشأته – وكما هو واضح من اسمه – إلى مساعدة الأفراد على تفادي دفع المخالفات غير العادلة المتعلقة بوقوف السيارات، وذلك من خلال تيسير وتسهيل إجراءات الاعتراض على تذاكر مخالفات وقوف السيارات الخاصة بهم. ويرجع الفضل في نشأة هذا التطبيق إلى رجل الأعمال البريطاني الأمريكي جوشوا براودر، المولود في لندن عام 1998م.

وإذا كان التطبيق في بدايته كان يهدف إلى مساعدة الأفراد على الاعتراض على تذاكر مخالفة وقوف السيارات الخاصة بهم، إلا أنه توسع بعد ذلك إلى مجالات أخرى، حيث صدرت نسخة حديثة منه في العام 2018م، تساعد المتقاضين في قضايا المطالبات البسيطة وغيرها من القضايا الروتينية الأخرى، وذلك على حد تعبير البعض (Very routine simple case).

وفي أحد التقارير الصادرة بعد بداية العمل بالتطبيق مباشرة، أصدرت (DoNotPay) بيانات تظهر أن برمجياتها ساعدت الناس على إلغاء ما يتراوح تعداده بين 160.000 إلى 250.000 تذكرة وقوف للسيارات منذ إطلاقها، بمعدل نجاح 64٪، وهي نتيجة لا يمكن الاستهانة بها أو التقليل من أهميتها.

أما التطبيق الثاني الأكثر شهرة على مستوى العالم، فهو المحامي الروبوت ليزا (LISA)، والذي يعتبر أول محامي ذكاء اصطناعي محايد في العالم، إذ أنه أول تطبيق ثنائي الاتجاه، يمكن الوصول إليه من جهاز كمبيوتر أو هاتف ذكي. وقد كان أول منتج للمحامي الروبوت «ليزا» هو اتفاقية السرية أو اتفاقية عدم الإفشاء (NDA)، والتي تلغي الحاجة إلى الاستعانة بمحامين أثناء عملية التفاوض من خلال البدء في منتصف الطريق بين الطرفين. ويسأل المحامي «ليزا» سلسلة من الأسئلة إلى المستخدم، وبناء على هذه الأسئلة، يتم إنشاء المستند وإرساله إلى المراجع. ويستخدم المراجع الروبوت «ليزا» لإجراء أي تغييرات.

وبمجرد الوصول إلى رضاء جميع الأطراف، تكون الوثيقة جاهزة للتوقيع وبحيث يكون لدى كل طرف منهم نسخة من اتفاقية عدم إفشاء ملزمة قانوناً بمجرد التوقيع عليها. وقد تشعبت «ليزا» مؤخراً من خلال الدخول في صياغة عقود الإيجار التجارية والمهنية والسكنية. فضلاً عن العديد من العقود الأخرى.

وبعد المحامي الروبوت ليزا، يأتي الدور للحديث عن المحامي الروبوت روس (ROSS)، والذي يستخدم قوة الحوسبة الفائقة لـ (IBM Watson)، لمسح مجموعات كبيرة من البيانات، ومع مرور الوقت، يتعلم كيفية تقديم أفضل خدمة لمستخدميه.

ويمكن للبرنامج إنتاج مستند في غضون ثوان، بينما قد يستغرق إنتاجه عدة ساعات إذا قام به بنو البشر. وقد كانت شركة (BakerHostetler) للمحاماة واحدة من الشركات العالمية الأولى التي استخدمت (ROSS)، حيث يعالج البرنامج قضايا الإفلاس. ويقوم الموظفون بإدخال أوامر إلى البرنامج بشكل يومي، مثل الحاجة إلى العثور على أمثلة على سوابق لقضايا معينة، ثم تبحث (ROSS) من خلال قاعدة بياناتها القانونية لإنتاج المعلومات ذات الصلة.

وفي المرتبة الرابعة، يأتي المحامي الروبوت بيلي بوت (Billy Bot)، والموصوف بالروبوت الثرثار الذي يحب الدردشة، ويستخدم لمساعدة الأفراد الذين يحتاجون إلى محام أو وسيط لحل مشكلتهم القانونية، ولا يعرفون كيف يمكن اختيار المحامي المناسب، وما هي المعايير التي يمكن على أساسها تحديد هذا المحامي. وهكذا، يمكن النظر إلى «بيلي بوت» باعتباره المساعد الصغير المبرمج لمساعدة الأفراد في العثور على المحام أو الوسيط المناسب لمشكلاتهم القانونية. و

«بيلي بوت» أيضاً بعمل مساعد للمحامين البشريين، كما يوفر المعلومات القانونية الأساسية للمستخدمين عبر الإنترنت. وقد تمت تسميته بهذا الاسم تيمناً باسم أمين السر (Clerk) في المسلسل التلفزيوني «سيلك» (Silk)، والهدف النهائي هو أن يقوم برنامج الدردشة بإرشاد المستخدمين إلى الموارد القانونية المجانية عبر الإنترنت ومساعدتهم على تحديد ما إذا كانوا بحاجة إلى مساعدة قانونية ثم، إذا احتاجوا، ايجاد محام مناسب لهم، سواء كان محامي لتحضير الإجراءات (solicitor) أم محامي مرافعات مباشر (barrister)، وتحديد المواعيد والتعامل مع جميع المهام التي يقوم بها المساعد البشري.

أما المحامي الروبوت «أوتوميو» (Automio) فهو محامي مخصص للمحامين الراغبين في اقتناء محامي آلي خاص بهم، حيث يمكن للمحامين البشريين استخدام المحامي الروبوت «أوتوميو» الخاص بهم لمقابلة العملاء وإعطاء النصائح وصياغة العقود والوثائق القانونية بشكل فوري ومتخصص. ومن شأن استخدام تقنية الروبوت الخاصة بالمحامي (Automio) تقليل الوقت الذي يقضيه المحامون في العمل الروتيني المتكرر والأقل قيمة.

كذلك، ومن خلال هذه التقنية، يمكن لعملاء مكاتب المحاماة خدمة أنفسهم عبر الإنترنت والحصول بشكل فوري على الوثائق القانونية التي يحتاجون إليها. ولدى (Automio) سوق، حيث يمكن للمحامين البشريين بناء وشراء وبيع وإعادة بيع المحامين الآليين.

وأخيراً، وفي ختام الندوة، ارتأيت من الملائم أن أقوم بإلقاء هذا السؤال على المحامين والمستشارين القانونيين الحاضرين في هذه الندوة، حيث سألتهم عما إذا كان يمكنهم بناء محامي آلي بأنفسهم، وبحيث يمكنهم استخدامه في أعمال مهنتهم.

كذلك، ارتأيت من المناسب الإشارة إلى أنه ربما تكون فكرة «المحامي الآلي» في بدايتها، وربما تكون الأعمال التي يقوم بها المحامي الروبوت في الوقت الحالي لا تشكل تهديداً كبيراً للمحامي البشري، ولكن المستقبل قد يبعث على الخوف بشأن مستقبل هذه المهنة. إن تطور الذكاء الاصطناعي يعني أن برامج مثل (DoNotPay) و(Lisa) و(Ross) و(Billy Bot) و(Automio) تصبح أكثر تعقيداً بمرور الوقت.

وكلما زاد عدد المعلومات التي يراها ويتفاعل معها البرنامج، كان بإمكانه تصحيح أخطاء الماضي بشكل أفضل، وأصبح شيئاً فشيئاً خدمة أكثر فائدة.

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى