الآدمي بين النضج والضمور ! (4)

من تراب الطريق (1008)

 الآدمي بين النضج والضمور ! (4)

نشر بجريدة المال الثلاثاء 29/12/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

ولأن المستفيدين الكبار متاح لهم وممكّنون من استخدام واستغلال النواتج العملية القابلة للرواج والانتشار والكسب من العلوم الوضعية ـ في الصناعة والزراعة والتجارة والمال والأعمال.. فإن همهم الأول والأخير هو الاتساع والرواج للمزيد من اليسار والغنى والقوة والسلطة والنفوذ.. وهذا كله لا يتأتى إلاّ باجتذاب الجمهور العريض باستمرار وإصرار، وتصعيد أغراضه القريبة والبعيدة نسبيًا، وكذا أهوائه واشتهاءاته ومطامعه ومخاوفه وأوهامه وكوابيسه أو أحلامه المزعجة !

وهذه المسايرة الملازمة لوضع العلم الوضعي في خدمة ومقاصد وخطط ومرامي وسياسات واتجاهات طلاب المال والسيادة والقيادة والتوجيه.. هي هي التي أجهضت العلم الوضعي حتى الآن في أن يقود مباشرة ـ وعيًا وفهمًا ـ بشرية البشر عمومًا، وحالت دون صحوتها وتفطنها إلى اليوم.. بل زادت في احتمالات دمارها الشامل !

ولأن العلم الوضعي بمرور الزمن ـ مع الانتشار وكثرة المنتمين ـ قد سلّم تبعيته لأهل الحل والعقد والمال، وانحاز إلى مستوياتهم ـ وربما مارس ما مارسوه ومتع نفسه بمثل ما يتمتعون به، فإنه لم يعد يخدم عامة الناس كما يخدم الخاصة، بل وتحرك بمستوياته إلى الحياة الكريمة المشتهاة.. وربما انتقل من العلم إلى العمل المجزي في نظر أرباب المصالح والشركات والمراكز والمناصب، وتخلل ذلك كله ما تخلله ويتخلله من الالتواء والأنانية والفساد المألوف وغير المألوف !

هكذا كان وما زال سلوك الجماعات البشرية في ماضيها وحاضرها.. يتغير ويتطور ليتغير.. متابعًا في الغالب الأغلب لأغراض ومصالح ومخاوف أنانيات أفراد يسوقون في طريقهم كثرة وسذاجة الجماعات.. هذه الكثرة التي لا تريد حتى الآن أن تتخلى عن سطحيتها وأصواتها.. وهذه السطحية إن لم تزد فإنها لا تتناقص لأنها لا توجه بقدر ما تقاد وتخدع !.. فما زال الغنم والكسب الشخصي أقـوى مـن الأمانة، وما زالت النجاة من الإيذاء أصوب من إعلان ما هو حق، وما زالت الكلمة المؤنسة الحلوة في أذن القوى النافع الضار ـ أفيد لقائلها من قول الصدق المحفوف بالمخاطر !.. وما يذاع أو ينتشر أو يرُوج أو يرَّوج في المجامع والمحافل والجماعات عبارة عن خليط من الاصطناع البعيد عن الواقع.. فقد صار البث والإذاعة والنشر والإعلان حرفة، ولم يعد فضيلة صرف.. ولهذه الحرفة ـ ككل حرفة ـ درجات ومستويات متعارفة تساير أعراف وعادات الطبقات في كل جماعة بخواصها، وتلوك ما ألفت قبوله أو رفضه من اللائق أو غير اللائق سلوكيًا.. دون التدقيق في صحته من حيث العقيدة أو عدم صحته.. وإلى يومنا هذا لم يفارق البشر هذا العرف الواسع المتسع غير المنضبط الذي لا يمنع الخلط أو الأنانية أو المكر أو السيطرة والتسلط الذي يغرى دائمًا بإمكان الوصول إلى المشتهيات بالسبل التي في متناول اليد.. والآدميون حتى الآن معرضون بلا استثناء ـ لمقابلة الويلات والنكبات.. يواجهها المتحضر وغير المتحضر والموسر والمعدم والعارف والجاهل متى عم البلاء قبل تدارك غوائله !.. فالمشارب والعادات التي تقودنا بغير انقطاع ـ أكثر بكثير جدًّا من أثر المعارف والعلوم ومن استقامة الأخلاق والإصرار على التمسك ـ سرّا وعلانية ـ بالصدق والأمانة والفضيلة !.. ونحن لازلنا إلى الآن نستهين بهذا الواقع المزمن المرّ الذي لوثت أصابعه كل عصر وكل مكان وكل جماعة !.. وبشريتنا لم تتجاوز بعد غرائزها ومطامعها وأحقادها وأنانياتها ـ إلى إنسانيتنا التي لم تتم بعد !.. وهي لن تتم إن لم نغير عاداتنا ونتخلص نهائيا بحزم وعزم من الأنانية !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى