شرح قاعدة “البينة على المدعي واليمين على من أنكر” في الفقه الإسلامي والقانوني

كتب: أشرف زهران

تعتبر هذه القاعدة من القواعد الأساسية في تحديد من يقع عليه عبء الإثبات فهي قاعدة عامة مختصرة الكلمات واضحة المعنى، وذلك لأنها تبين الطرف الذي يتحمل عناء أو مشقة القيام بالإثبات، كما توضح الطرف الذي يتحمل عبء حلف اليمين بعد أن يعجز الطرف الأول في الدعوى عن القيام بما كلف به.

هذه القاعدة من القواعد المتفق عليها بين الفقهاء شرعاً وقانوناً، ولبيان أهمية هذه القاعدة تشرحها لنا الأستاذة مروة أبو العلا المحامية من خلال البحث في الفقه الإسلامي والقانوني.

أولاً- قاعدة البينة على المدعي واليمين على من أنكر في الفقه الاسلامي.

تقول المحامية أن هذه القاعدة يشتمل معناها على شقين كالتالي:

الشق الأول- البينة على المدعي:

الشق الاول: وهذا فحواه ان الذي يتحمل عبء الاثبات مبدئياً هو المدعي؛ لانه المكلف باقامة البينة؛ وذلك لانه من المفهوم سلفا ان كل خبر يحتمل الصدق والكذب، والادعاء المجرد لا يخرج عن كونه خبراً لا يكون صادقاً ما لم يستند بالحجة الراجحة الواضحة.

والمقصد في جعل البينة في جانب المدعي هي ان جانبه ضعيف؛ لانه يدعي خلاف الظاهر اصلاً، ولاظهار قوته وكشف ما استتر واثبات عكس الظاهر الذي يبدو معهوداً للكافة ليس على حقيقته، يستلزم الامر منه البينة. اما المدعي عليه فلا يكلف باقامة البينة؛ لان قوله مؤيد بالظاهر، لكن اذا اقام الطرف الاول في الدعوى البينة الواضحة الصريحة الراجحة ولو كانت ظنية راجحة، وجب الامر على القاضي ان يفصل في الدعوى بالحكم لصالح المدعي ما دامت كافية لاثبات الحق ومخالفة الظاهر وليس للمدعي عليه في هذه الحالة الحق في طلب تحليف المدعي على صحة البينة او على استحقاقه المدعي به؛ لان ذلك يشكل اخلالا كبيرا لهذه القاعدة ولتعطلت مصالح الناس بعد ان اشترط المشرع البينة على المدعي، ولهذا يفترض صدق بينة المدعي، ولا يملك المدعي عليه الحق في تحليفه اليمين على صدق بينته.

 

 

الشق الثاني- اليمين على المنكر:

ومضمون هذه الشق من القاعدة انه اذا لم يستطع المدعي اقامة البينة على ما ادعاه وانقطعت به السبل عن امكانية الوصول الى اقناع القاضي بصحة دعواه، فلا يبقى امامه خيار سوى الاحتكام الى ضمير المدعي عليه وذمته، عسى ينطق بالحق فيعترف به، ومن هذا الاساس جاءت اهمية توجيه اليمين. فكأن الطرفين اتفقا الى اشهاد الله سبحانه وتعالى على صحة دعواهما. وقوة اليمين تكمن في اداء المدعي عليه اياه من اجل المحافظة على حقه من الضياع اذا كان صادقا، وان كان كاذبا فقد ارتكب احدى الكبائر التي تستوجب غضب الله في الدنيا والاخرة. قال تعالى (ان الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمنا قليلا اولئك لا خلاق لهم في الاخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر اليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم).

وعن رسول الله (ص) انه قال: (الكبائر الاشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس).

وسبب تكليف المدعي عليه باليمين هو احتمالية ان يكون الحق عكس ظاهر الحال، فهذا الظاهر لا يسنده الا ظنا قوياً. فكانت الحاجة ضرورية لهذا اليمين لقطع الشك باليقين اما عن ادلة مشروعية قاعدة (البينة على من ادعى واليمين على من انكر) فقد استدل فقهاء الامة الاسلامية على مشروعية هذه القاعدة الفقهية من الكتاب والسنة والاجماع. ودليل هذه القاعدة في القرآن الكريم قوله تعالى: (يا ايها الذين امنوا اذا تداينتم بدين الى اجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب ان يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فان كان الذي عليه حق سفيها او ضعيفا او لا يستطيع ان يمل هو فليملل وليه بالعدل).

وجه الدلالة في هذه الاية الكريمة هو امر الله سبحانه وتعالى بوجوب الكتابة للمعاملات التي تجري بين الناس والاشهاد عليها، ضماناً للحقوق من ضياعها او انكارها، والذي يدعي خلاف الظاهر اصلا على وجود حق له على غيره يحتاج بالضرورة الى دليل يعزز قوله ويثبت حقه، فالحق جل وعلا – شرع الكتابة والاشهاد لتقوية قول من يدعي خلاف الظاهر. اما سند البينة من السنة النبوية المطهرة، فقد استدل فقهاء الامة الاسلامية من السنة بعده ادلة منها على سبيل المثال ما رواه البهيقي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما ان رسول الله (ص) قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال اموال قوم ودمائهم، ولكن البينة على من ادعى واليمين على من انكر)، وقد اخرجه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده بلفظ (البينة على من ادعى واليمن على من انكر الا في القسامة)، والحديث رواه اصحاب السنن عن ابن عباس بلفظ (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء قوم واموالهم ولكن اليمين على المدعي عليه)*.

أما الدليل من الاجماع على هذه القاعدة فظاهر في اجماع فقهاء الامة الاسلامية، على ضرورة تكليف المدعي بالبينة، والمدعي عليه باليمين، ولم يظهر اختلاف بخصوص هذه المسألة بين الفقهاء المسلمين. ومن الامثلة التطبيقية لهذه القاعدة في الفقه الاسلامي انه اذا ادعى شخص على اخر ديناً وجب عليه اثباته بالبينة وان تعذر وجب اليمين على المدعي عليه.

وكذا اذا ادعت زوجة نفقة من زوجها، فانكر الزوج (المدعي عليه) كون المرأة زوجته، فيتطلب الامر منها في هذه الحالة اثبات الزوجية بالبينة، فاذا عجزت يكلف الزوج باداء اليمين بطلب الزوجة، فان حلف لا تسمع الدعوى فترد، وان نكل يحكم عليه بالنفقة.

ثانياً- قاعدة البينة على المدعي واليمين على المنكر في الفقه القانوني:

هنالك توافق كبير بين الفقه الاسلامي والقانوني بشأن تقرير هذه القاعدة، حيث يذهب الاتجاه الفقهي القانوني السائد الى القول بأن المدعي هو المكلف باقامة البينة، اماالمدعي عليه فإنه يكلف بحلف اليمين اذا تعذر بعد ذلك اقامة البينة من قبل المدعي. اساس هذا الاتفاق الفقهي هو الاتفاق التشريعي، فالنصوص التشريعية القانونية كالقانون العراقي والقوانين العربية الاخرى تؤكد مضمون هذه القاعدة.

لهذا بخصوص هذه القاعدة نصت كل من المادة (7) من قانون الاثبات العراقي وقانون البينات الاردني في المادة (77) على انه: (البينة على من ادعى واليمين على من انكر)،مضمون هذه القاعدة في الفقه القانوني يتضمن شقين ايضا.

الشق الأول- البينة على المدعي:

ان الاجماع الفقهي القانوني متفق بالقول ان الذي يتكبد مشقة القيام بعبء الاثبات انما هو المدعي، كل ذلك من اجل ان يكون ادعاء المدعي له اساس يستند اليه مسبقاً حتى لا ترفض دعواه. فلا يمكن الحكم لصالح المدعي بمجرد الادعاء، والا اعتبر ذلك مخالفة صريحة لقاعدة (البينة على المدعي). فاقامة المدعي البينة وعدم قدرة المدعي عليه احباط صحة الدعوى، يكون سبباً رئيسياً للفصل في الدعوى لصالح المدعي ليس لعدم قدرته عليه نفي صحة الدعوى وانما يكون اساس الحكم بينة المدعي.

الشق الثاني- اليمين على من أنكر:

من المبادئ القانونية المستقرة هو حياد القاضي وقد نص القانون على تكليف من اقام الدعوى ضرورة اثبات صحتها بالبينة الراجحة، وقد يكون المدعي في هذه الحالة معرضاً للاخفاق في اثبات صحة دعواه، فيكون معرضاً لخسارة دعواه اذا لم يلجأ الى ضمير المدعي عليه، ليطلب منه اليمين عن احقيته في الشيء المدعي به. فمسألة الحصول على اقرار مسبق من المدعي عليه لصالح المدعي يتضمن احقية المدعي بالمدعي به امر نادر الحصول في الواقع العملي؛ لانه لو حصل اقرار لما وصل الامر لرفع النزاع امام القضاء.

فلا يبقى امام المدعي سوى خيارين الخيار الاول يتحمل عبئه باقامة البينة والخيار الثاني اللجوء الى ضمير المدعي عليه بعد عجزه عن الاثبات. والخيار الاول يعتبر محفزاً للمدعي عليه لاثبات عدم صحة دعوى المدعي اذا نجح المدعي باقامة البينة بالدفع والخيار الثاني يعتبر محفزاً للمدعي عليه باداء اليمين او انكارها او ردها على المدعي .

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى