يقظة مرجوة
بقلم الأستاذ: رجائى عطية نقيب المحامين
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 17/10/2020
لم يقلل انتشار العلم الوضعى وآثاره التى لا تحصى فى الاختيارات والأذواق والأعمار والأجناس ـ من المبالغة فى السطحية والخفة فى حياة البشر منذ النصف الأخير من القرن الماضى .. بل ضاعف هذه الخفة وهذه السطحية إلى حدود قل فيها الأمان مع الأنفس والمرافق والأموال .. يجرى ذلك فى المجتمعات كلها .. ما تسمى منها بالرقى والتقدم والتحضر، وما يدعى منها أنه فى طريقه إلى ذلك، وما يوصف بأنه متأخر متخلف .. فلم يعد عالمنا كله يشعر إلاّ بالتشاؤم والقلق فى كل مكان .. كأنه قد فقد اتزانه إلى غير رجعة .. ولم يعد يجد القادرين على إعادته إلى أمانه واتزانه .. ولا عاد يرى ما يبث فيه الثقة والعزم على التماسك للاستمرار فى النجاح ككل.. بل لم يعد له ما يحمله على التماسك للمحافظة على ما وصل إليه، ولم يعد يغيثه ما نراه من الانتشار الهائل لوسائل وأدوات الإذاعة والصحافة والطبع والنشر والكثرة الغريبة للمؤتمرات والاجتماعات الدولية والمحلية والاتفاقات والقرارات التى لا طائل وراءها إلاّ الخلافات والانتهاكات والانهيارات .. ما أكثر الأقوال وما أقل الأفعال المثمرة، وما أكثر الخسائر وأقل المكاسب، وما أكثر الحماقات والخبائث وأقل الحكمة والتبصر !!
يبدو أننا نعيش ـ حسب الأعم الأغلب ـ حياة ليست لها أعماق وجذور .. حياة غير سليمة بدنياً أو فكرياً أو عاطفيًا على أرض دائمة الاهتزاز بنا .. فى جماعات مفككة وظروف قلقة مزعجة .. حياة هشة واهية العزائم والآمال تتهددها زوابع وأعاصير وفواجع هنا وهناك !! ونحن فى يقظتنا البليدة المألوفة .. نصف النائمة ـ لا نرغب أن يكمل ويتم صحونا كأننا يزعجنا أن نفيق ونشهد ما لا نطيق أن نشهده ! ـ ومع ذلك فما زال السؤال يجىء ويذهب لدى بعضنا يزلزل داخله : هل نقدر على الإفاقة ونتحمل مواجهة مصاعبها بعيون وعقول صاحية فنتمكن من مواجهتها؟ أم سنمضى فى الاستغراق فيما نحن عليه الآن إلى نهايته ـ نلوذ باللغو واللجاج والتزاحم عليهما ـ تحركًا وتنقلاً مع الإنصات للإذاعات والالتصاق بقنوات التليفزيون وبأقاويل الصحـف والنشـرات وفتـاوى المتطفلين ومن هَبَّ ودبَّ وما لا حد له ولا طعم من المطبوعات ثم إنفاق الزمن فى المجالس والاجتماعات وإضاعة الأعمار فى اللقاءات الفارغة لترديد الإشاعات والانتقادات فى النوادى وأحيانًا كثيرة فى الزيارات. ذلك الباطل الذى يبدو عامًا شاملاً، الملون بكافة ألوان التغرير الخبيثة والساذجة ـ خليق بالتعجيل فى طرده وإزالته. فهل فيما بيننا من هو مستعد لمقاومته بكل ما لديه آملاً أن يجمع أو يتسبب فى جمع مـن يقومون بإزالته ؟!
ينبغى ألا ننسى أن كلاً منا معه ثقته بنفسه وإن احتاج فجأة إلى مشورة سواه ، وقد يصيب فى ذلك أو لا يصيب . وهى دائمًا ثقة غير متماثلة فى القوة أو فى الكم ـ متغيرة مع تغير الظروف والأطوار والأعمار، لكن لا بد من وجودها وعلى أية صورة لدى الآدمى سليم العقل .. بها يقدر ويوصى وينصح ويوافق ويساعد، وبها أيضًا يرفض ويمتنع ويخالف ويعارض ويعادى، وعليها تبنى الارتباطات والعلاقات والقرابات والمودات، كما عليها يحصل الابتعاد والبغض والقطيعة والحقد. وكل منا دون أن يشعر ـ قد تقوى ثقته فى اتجاه أو تضعف ـ تبعاً لما يعتقد أنه تحقق ـ بناءً على ما يجربه أو رآه أو عرفه أو ذاع فى محيطه أو سمعه أو قرأه.
برغم ذلك كله لا يزال فينا حتى اليوم من يأمل ـ جاداً كل الجد ـ فى أن تزداد يقظة البشر كبشر إلى الحد الذى يفضلونها هى فيه على كل ما يطمع فى الحصول عليه سواد البشر الآن. وهو اتجاه إذا انطوى على تصميم وإصرار ـ قد يجد فرصًا للانتشار فيبعد هذا القنوط الذى يسود عالمنا اليوم . لأن البشر معرضون للعدوى سلبًا وإيجابًا .. فما عَرَّضَنَا للقنوط الذى بتنا فيه ، قد يعرضنا عكسه ـ غدًا ـ لتلك اليقظة المرجوة !