وظيفة المال الاجتماعية
بقلم : الأستاذ رجائى عطية، نقيب المحامين، رئيس اتحاد المحامين العرب
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 11/9/2021
يتنسم المال قمة جدول القوى والقدرات ، فهو وسيلة لتحقيق الكثير بالشراء وغيره .. على أن معظم الناس يغفلون عما للمال من وظيفة اجتماعية ، ويأخذونه على أنه مجرد عزوة أو قوة أو شوكة .
إلاَّ أن للمال آثار ليس فقط على الأشياء ، وإنما أيضًا على الأرواح ، باعتباره قيمة قد تنافس الدين ، وباعتباره عنصراً فى الواقع ، ووسيلة من الوسائل فى خدمة الحاجات المادية اللازمة للدعوة الدينية ، وباعتباره أداة للتعبير عن العواطف بما فيها عاطفة التدين .
فالمال قوة فى المجتمع ليس لها فى نظر الناس حدود ، وهو قوة مركزة تستخدم فى تحقيق آلاف بل ملايين الرغـبات والأغراض ، لذلك فقد صار الصراع على المال صراعاً من أجل القوة فـى أصفى وأيسر صورها ، فهو فى مقدمة قائمة القيم فعلا وواقعا فى كل الجماعات حتى الماركسية منها ، وأدى إلى سيادة « الطابع المادى » الذى هو أكثر ظهورا عند السوقة والمحتاجين وأهل الفقر والكتل بعامة ، نتيجة الشعور بالاحتياج والضيق وشدة التطلع إلى التخلص أو الراحة منهما ، من أجل هذا تتعاظم غالبا قيمة المال ـ حتى القليل منه ـ فى عين الفقير، ولذلك لم تستطع الأديان حتى فى عنفوانها أن تحطم مكانة المال فى قلوب الكتل الفقيرة .
بيد أن هذه الكتل الفقيرة ليست هى التى تعطى المجتمعات طابعها عبر التاريخ ، وإنما يستمد المجتمع طابعه دائما من الطبقات التى تعلو القاعدة ، كما هى الحال فى الأبنية عموما ، وهذه الطبقات هى التى يمكنها أن تقف من المال موقفا فيه شىء من الهدوء يسمح بالتأمل ، وهى التى يمكن أن تفطن إلى أضرار المال وأخطاره وقدرته الشيطانية على التسرب إلى الروح وإتلاف الضمير . وفى هذه الطبقات ـ التى تعلو القاعدة ـ يمكن أن يتقابل الدين كقيمة مع المال مقابلة فيها صراع ، فإذا فاز الدين انخفضت مكانة الغنى بالنسبة للفقير ، وتراجع شأن المال ، وقل أو اعتدل تهافت الناس على الثراء ، وسهل من ثم بذل المال والتقرب به فى الصدقات وأنواع البر سرا وعلانية ، ولم يعد الفقر من المال نقصاً يغض من قدر الآدمى فى عين نفسه أو فى عيون الناس ، ولم تعد ملكية المال تزكى ـ فى ذاتها ـ قدر صاحبها ، وخف بهذا جانب مهم من جوانب الصراع على الدنيا ، وتسربت روح ذلك وأنـداؤه إلى الكتل الفقيرة ، فيلطف من حدة ما تعانيه .
وعملية رفع الدين إلى رأس قائمة القيم ، هى فى الدرجة الأولى عملية خفض لمكانة المال وسلطانه وأثره على النفوس ، على أنه ليس من السهل ـ مادام الناس على ما هم عليه ـ أن يبـقى الدين مـدة طويلة على رأس جدول القيم فعلا وواقعا . ويبدو أن تصدر الدين قائمة القيم فى نفوس الناس لا يجىء إلاّ كرد فعل فى أعقاب النكبات والانتكاسات ، أو فى أعقاب نوبات التكالب والسعار على الدنيا التى تجتاح المجتمعات عندما يبلغ فيها الشغف بالمادة ومتاع الدنيا حد الاقتتال ، ففى أعقاب هذه وتلك تكون الظروف مهيأة للدين لأداء دوره الطيب والملطف لما يصيب المجتمعات من الأوضار !
ويجب أن يلتفت أهل الدعوات ـ فى تأثير المال ـ إلى دور الخامة البشرية ، أى مجموعة الاستعدادات والقدرات والخصال التى لدى الإنسان ، وهى قدرات تختلف باختلاف المكان والزمان والظروف ، وترك ويترك آثاره الحتمية فى تاريخ الأديان وكيفية نموها ، وعلى آثار صراعها مع المال والقوى المادية ، وهو يحدد مع غيره من العوامل مستقبل أى دعوة دينية قديمة أو جديدة .
وهبوط الخامة البشرية شىء حدث ويحدث فى كثير مـن الجماعات ، ويترجم عن وجوده فى صورة خلل مزمن فى عمـل الأنظمة ، وفى ذهول وإعراض الناس عن الاهتمام بالنجاح للأنظمة أو الغيرة على الخير العام . ولا سبيل إلى علاج هذا الهبوط حين يستشرى فى الخامة البشرية ، إلاَّ بمحاولة تغيير النفوس ودفعها إلى العودة الضرورية اللازمة لنجاح المجتمعات والأفراد .
ويبدو أنه فى هذا الصراع بين الدين والمال على نفوس الناس وأرواحهم ، لم يدرس المسلمون الكسل وأثره دراسة كافية ، ولم ينتبهوا إلى دوره الخطير فى تاريخهم ، ولا إلى الصلة الوثيقة بينه وبين المغالاة والتطرف والجمود !!