نقل الأعضاء بين الحظر والإباحة ! (3)
من تراب الطريق (1069)
نقل الأعضاء بين الحظر والإباحة ! (3)
نشر بجريدة المال الأحد 28/3/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
ما تقدم الحديث عنه حقائق علمية يجب أن يعرفها الشرعي، وأن يعرف لفهم أساس المعضلة أن تتابع موت خلايا الجسم، يختلف من عضو لآخر تبعًا لمدة تحمله الحرمان من الأوكسجين والجلوكوز، فلا تتحمل خلايا المخ أكثر من (5) ق، وخلايا العضلات (45) ق، وخلايا القرنية (4) ساعات قد تزيد إلى (8)، وخلايا الكبد ساعتان، أما خلايا الجلد فتتحمل (24) ساعة، وخلايا العظام (48) ساعة، فإذا لم يؤخذ العضو ويحفظ قبل فوات هذه المدد ـ تلف ولم يعد لنقله جدوى، وهنا تكمن المعضلة لطلاب نقل الأعضاء، وهي معضلة أعوص في حالة القلب لأنه لا غناء في أخذه ـ إلاّ إذا كان لا يزال ينبض !
وينبغي تبعًا لذلك، أن يعرف الشرعي أن المخ قد يتوقف لسبب غير موت خلاياه، وقد يكون هذا السبب قابلاً للتدارك والزوال فيعود المخ إلى العمل حتى وإن فقد بعض وظائفه، كبعض حالات النزيف أو الجلطات أو الأورام، فلا يعتبر المخ ميتًا في مثل هذه الحالات لبقاء خلاياه حيّة.
وينبغي والمعضلة كلها تثور حول جذع المخ، أن يعرف الشرعي ماهيته وموضعه ووظيفته، ووظيفته هي القيام بالعمليات الحيوية اللاإرادية التي تتم دون تفكير كالتنفس وخفقان القلب وضغط الدم، وتوقفه عن العمل يكون على إحدى حالتين: الأولى التوقف عن أداء الوظيفة مع بقاء خلاياه حيّة كما يحدث في الجرعات الزائدة من المهدئات أو المخدرات، وهي حالة قابلة للشفاء إذا أسعفت في الوقت المناسب. والحالة الثانية التوقف عن أداء وظيفته بسبب موت الخلايا. وهي موت حقيقي لا رجعة منه.
وينبغي للشرعي أن يلم أيضًا بأن مظاهر إصابة جذع المخ قد تختلط بمظاهر الغيبوبة العميقة رغم الاختلاف بينهما، فغيبوبة المخ قد تكون بسبب تلف في خلايا « قشرة المخ » التي تحتوى على مراكز الوعى والحس والإدراك والتفكير والحركة اللاإرادية، وهي مراكز بعيدة ومنفصلة تمامًا عن « جذع المخ » المسئول عن القلب والتنفس، ولذلك فإن المصاب بمثل هذه الغيبوبة العميقة يظل يتنفس وقلبه ينبض تلقائياً ودون أية أجهزة معاونة، وهذه الحالة لا تعتبر موتاً، وبلا خلاف.
وهناك غيبوبة للمخ سببها تلف في خلايا « جذع المخ » المسئول عن خفقان القلب والتنفس، فيدخل المصاب في غيبوبة عميقة مقترنة بتوقف التنفس ولكن مع استمرار القلب في الخفقان الذاتي للحظات قليلة يتوقف بعدها ما لم يسعف المصاب سريعًا بأجهزة التنفس الصناعي، فإن حدث استمر القلب أو عاد للخفقان وعادت الرئتان للتنفس، ومضى جريان الدورة الدموية، وهنا لب المعضلة ومكمن الاختلاف أو النزاع !
على أن إصابة جذع المخ لا تأخذ شكلاً واحدًا، فلها هي الأخرى حالتان مؤثرتان على وجه النظر والرأي، إحداهما تبدأ فيها الإصابة في « جذع المخ » أولاً ثم يتلوها توقف القلب والرئتين، والأخرى أن يبدأ توقف القلب والرئتين ( كما في السكتة القلبية ) ثم يتلوها موت جذع المخ. والحالة الأولى قد تكون لسبب عارض يقف عند حد بعض التلف أو العطب بجذع المخ يمكن بالعلاج شفاؤه أو تحسنه، فإذا توقف جذع المخ مع استمرار القلب والتنفس صناعيا، فإن توقف وظائف المخ لا يقترن بموت خلاياه ومن ثم لا تتحلل مهما طال وضع الحالة على الأجهزة الصناعية، وهذه هي الحالة التي تثير كثيرًا من اللغط والخلاف. أما الحالة الثانية البادئة بتوقف القلب والرئتين فإنها تنتهي خلال خمس دقائق على أكثر تقدير بموت خلايا جذع المخ لحرمانها من الأوكسجين، وهذا موت حقيقي نهائي لا رجعة منه بلا خلاف.
هذه العناصر العلمية يجب أن تكون حاضرة في علم أهل الشرع، وأن يتمثلها الشرعي ويفهم أحوالها ومغزاها قبل أن يطبق أحكام الشرع تطبيقًا يصادف محله، على أن أحكام الشرع والقانون، لابد أن تكون حاضرة هي الأخرى في علم وتقدير الطبيب، لأن المسألة ـ وكما قالت فتوى مجلس الدولة ـ ليست طبية فقط، تخضع فقط لتجارب وطموحات الطب، وإنما هي تتصادم بحقوق أخرى لأناس لهم حق الرعاية أمواتًا وأحياءً، ولها نتائج شرعية وقانونية تتعلق ـ في حالة الموت ـ بحقوق ورثة وموصى لهم وثبوت أو عدم ثبوت الأنساب، فضلاً عن البعد الديني والأخلاقي والمجتمعي.
استمعت قريبًا إلى واحد من كبار أطبائنا، تحدث بحرارة وحماس عن نجدة المريض الذي ينحاز له انحيازا استأذنته في أن أسترعى انتباهه إلى أنه مع كامل التقدير لهذا الانحياز العلمي المشبوب أيضاً بالعواطف، فإنه لا يلتفت في غمرة انحيازه وعواطفه، إلى الجانب الآخر الذي قد يكون حيّا اعتبر ميتا على خلاف الواقع، أو فقيرًا ألجأته الحاجة إلى بيع أعضائه متسترًا بتبرع يعلم القاصي والداني أنه صوري يخالف الواقع الذي لم يرصد غنيًّا واحدًا تبرع بشيء من أعضائه لأحد خلاف ابنه أو أبيه أو أخيه !
* * *
والتوصيات التي صدرت سلفًا لمؤتمر مجمع البحوث الإسلامية الثالث عشر (12/3/2009) ـ اتفقت في جانب مع توصيات سابقة، ووسعت في جوانب، وضيقت في أخرى. فهي إذ اتفقت مع الفتاوى السابقة في عدم جواز بيع الأعضاء وتحريمه وبطلانه شرعا إن وقع، وأجازت تبرع العاقل المختار غير المكره، إلاّ أنها أجازت التبرع بإطلاق للأقارب وغير الأقارب، وهي بذلك لم تخالف فحسب ما سبق تقريره من اشتراط القرابة، وإنما تفتح الباب على مصراعيه للبيع تحت مسمى التبرع الذي بالضرورة سوف يدعيه البائع والمشتري لتصوير النقل ـ خلافًا للحقيقة ـ على أنه تبرع لا بيع ! وذلك يفتح أبوابًا لن تنغلق لتجارة الأعضاء سيما في بلادنا التي تفشى فيها الفقر واتسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء اتساعًا مخيفًا يهدد بتحول هذا التوسع إلى تجارة يتغول فيها الأغنياء في مصر والمنطقة ـ على المعدمين والفقراء والمحتاجين الذين سوف يبيعون أعضاءهم تحت ضغط الفقر والحاجة !!