نقابة المحامين.. بين الوحدة والتعدد

بقلم/ الدكتور أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

في يوم الجمعة الموافق العاشر من يوليو 2020م، أقر البرلمان التركي مشروع قانون بتعديل قانون انتخابات النقابات المهنية. وقد صوت لصالح مشروع القانون تحالف الشعب المكون من حزب العدالة والتنمية الحاكم وحليفه حزب الحركة القومية، بينما عارضه حزب الشعب الجمهوري وغيره من أحزاب المعارضة.

ويسمح القانون بتكوين نقابات متعددة لمنتسبي النقابات المهنية، في كل إقليم من أقاليم البلاد، الأمر الذي يشكل تعديلاً جذرياً للوضع الذي كان سائداً قبل صدور هذا القانون، حيث لم يكن مسموحاً سوى بتشكيل نقابة واحدة في كل إقليم. ووفقاً للتعديل الجديد، فإن الشرط الوحيد لإنشاء أكثر من نقابة في الإقليم الواحد يتمثل في الحد الأدنى المطلوب لتشكيل النقابة بألفي عضو.

ومتى توافر هذا الشرط، وتم إنشاء أكثر من نقابة في الإقليم الواحد، يغدو جائزاً للراغبين الجدد في ممارسة المهنة بالتسجيل في أي نقابة في الإقليم. ويمكن للمنتسب إلى أي من النقابتين أو النقابات الكائنة في ذات الإقليم أن ينتقل إلى نقابة أخرى غير التي كان مسجلاً بها في السابق. وحسب فهمي، فإن التعديل ينصرف إلى نقابات المحامين الفرعية، فلا يتعلق من قريب أو من بعيد باتحاد نقابات المحامين، والذي يقابل النقابة العامة للمحامين في النظام القانوني المصري.

ورغم أن القانون يتعلق بالنقابات المهنية بوجه عام، وليس قاصراً على نقابة المحامين، إلا أن القانون آثار عاصفة من الاحتجاجات لدى المحامين على وجه الخصوص. وبمجرد الإعلان عن مشروع القانون، وفي نهاية شهر يونيو الماضي، احتج آلاف المحامين الأتراك أمام المحكمة الرئيسية في إسطنبول وخارج محكمة تشاليان وغيرها من المحاكم الأخرى في البلاد، قائلين إن هذا المشروع يهدف لإسكات المعارضة وسيؤدي إلى تسييس مهنتهم.

إذ ترى نقابات المحامين أن القانون يهدف بشكل رئيسي إلى إضعاف نقابات المحامين وإضعاف اتحادها الحالي وتفتيته وفتح الباب أمام إنشاء نقابات موالية للرئيس إردوغان ولحزبه، الأمر الذي يقود في النهاية إلى تشكيل نقابات محاماة عرقية ومذهبية. وبعبارة أخرى، فإن تسجيل المحامين في نقابات مختلفة سيؤدي إلى الانقسام. وسيتم تصنيف المحامين وفق نقاباتهم.

ولعل ما عزز هذه المخاوف أنه، وبمجرد إقرار مشروع القانون، تقدم أنصار الحزب الحاكم بطلب إنشاء نقابة جديدة للمحامين في العاصمة أنقرة باسم «نقابة محاماة الحق والعدالة».

وفي المقابل، يقول حزب العدالة والتنمية إن القانون الجديد ضروري لأن نقابات المحامين لم تعد قادرة على أداء وظيفتها على النحو الملائم، بعد زيادة عدد المحامين في البلاد بواقع ثلاثة عشر ضعفاً منذ بدء سريان القانون السابق.

كذلك، يؤكد الحزب أن القانون سوف يعمل على تعزيز المنافسة في القطاع القانوني، ويسمح بإحلال الديمقراطية في نقابات أو جمعيات المحامين القوية.

وهكذا، يبدو جلياً أن الجدل حول القانون الجديد قد تركز بشكل أساسي على نقابة المحامين، رغم أن القانون يتعلق بكل النقابات المهنية. وقد انعكس ذلك على التغطية الإعلامية لمشروع القانون، والتي تناولت مشروع القانون كما لو كان متعلقاً بنقابات المحامين دون غيرها من النقابات المهنية، مع ابراز آثار القانون على أصحاب الرداء الأسود، والتأكيد على أنه يحد من استقلالية المحامين.

ودون الخوض في هذا الجدل بشأن قانون صادر في إحدى الدول الأجنبية، وإذا أردنا مناقشة الموضوع من زاوية علمية محضة، وباستقراء تشريعات الدول العربية، يلاحظ أن الاتجاه السائد في هذه التشريعات هو وحدة النقابات المهنية.

بل إن هذا المبدأ يكتسي قيمة دستورية في النظام القانوني المصري، حيث تنص المادة السابعة والسبعون من الدستور الحالي الصادر عام 2014م على أن «ينظم القانون إنشاء النقابات المهنية وإدارتها على أساس ديمقراطي، ويكفل استقلالها ويحدد مواردها، وطريقة قيد أعضائها، ومساءلتهم عن سلوكهم في ممارسة نشاطهم المهني، وفقاً لمواثيق الشرف الأخلاقية والمهنية.

ولا تنشأ لتنظيم المهنة سوى نقابة واحدة، ولا يجوز فرض الحراسة عليها أو تدخل الجهات الإدارية في شئونها، كما لا يجوز حل مجالس إدارتها إلا بحكم قضائي، ويؤخذ رأيها في مشروعات القوانين المتعلقة بها». وبدوره، يكرس قانون المحاماة رقم (17) لسنة 1983م مبدأ وحدة نقابة المحامين، رغم عدم وجود نص واضح صريح في هذا الشأن، حيث يمكن أن نستخلص هذا المبدأ من العديد من نصوص القانون، والتي تتعلق بمجلس النقابة العامة ومجالس النقابات الفرعية. فوفقاً للمادة (120) من هذا القانون، «نقابة المحامين مؤسسة مهنية مستقلة تضم المحامين في جمهورية مصر العربية المقيدين بجداولها وتتمتع بالشخصية الاعتبارية ومقرها القاهرة وتتبعها نقابات فرعية على النحو الذي ينظمه هذا القانون». وفيما يتعلق بالنقابات الفرعية، تنص المادة (144) من القانون على أن «تنشا نقابات فرعية في دائرة كل محكمة ابتدائية ويكون لها الشخصية الاعتبارية في حدود اختصاصاتها وتعمل على تحقيق أهداف النقابة في هذا الاختصاص.

وللجمعية العمومية للنقابة العامة بناء على اقتراح مجلس النقابة أن تقرر إنشاء نقابة فرعية واحدة تشمل اختصاصها أكثر من دائرة محكمة ابتدائية». وتنص المادة (145) على أن «تضم النقابة الفرعية جميع المحامين المقيدين بالجدول العام في دائرة النقابة الفرعية والذين يتخذون مكاتبهم أو يلحقون بالإدارات القانونية المنصوص عليها في هذا القانون في دائرة اختصاصها». ولزيادة الأمر وضوحاً، نرى من الملائم الإشارة هنا إلى ضرورة استخدام صيغة المفرد في صياغة المادة (144) من قانون المحاماة، وذلك عند إجراء أي تعديل قادم، وبحيث يجري نصها على النحو الآتي: «تنشأ نقابة فرعية في دائرة كل محكمة ابتدائية،…».

خلافاً للاتجاه سالف الذكر، وعلى الصعيد العربي، يلاحظ أن المادة الرابعة من قانون تنظيم مهنة المحاماة اللبناني رقم (8) لسنة 1970م تنص على أن «للمحامين في لبنان نقابتان نقابة في بيروت ونقابة في طرابلس.

وتسجل في نقابة بيروت أسماء المحامين المتخذين مكاتب لهم في جميع المحافظات اللبنانية ما عدا محافظة لبنان الشمالي. تسجل في نقابة طرابلس أسماء المحامين المتخذين مكاتب لهم في محافظة لبنان الشمالي.

لا يحق لمحام أن يمارس المحاماة في لبنان إذا لم يكن اسمه مسجلاً في إحدى النقابتين. ولا يجوز تسجيل اسم محام في النقابتين معاً أو في إحداهما وفي نقابة أجنبية. على كل محام مسجل في جدول المحامين العاملين أن يكون له مكتب في نطاق النقابة التي ينتمي إليها».

وهكذا، تنفرد لبنان عن بقية الدول العربية بوجود نقابتين للمحامين، إحداهما في بيروت والأخرى في طرابلس. ويمكن فهم ذلك في ضوء التركيبة السياسية والاجتماعية التي يتسم بها المجتمع اللبناني، دون أن يكون ذلك مرتبطاً بمصالح المحامين أنفسهم أو بدواعي ومبررات الدفاع عن مصالح المهنة.

كذلك، يوجد منطق التعدد في نقابات المحامين في الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي يرجع إلى أسباب تاريخية، حيث لم يكن مسموحاً قبل سنوات الستينيات من القرن الماضي للأمريكيين من أصول أفريقية أو من أصول أسيوية بالانضمام إلى نقابات المحامين من ذوي البشرة البيضاء.

ولذلك، درجت القوانين المنظمة لمهنة المحاماة في الولايات المتحدة الأمريكية على إجازة تأسيس نقابات متعددة للمحامين، بما يسمح للأمريكيين من ذوي البشرة السوداء والأمريكيين من أصول أسيوية بتأسيس نقابات محاماة خاصة بهم.

والواقع أن النقابات – بحسب طبيعتها وسبب وجودها – تستهدف الدفاع عن مصالح المهنة، وهذه المصالح ينبغي ألا تختلف بحسب انتماء الشخص الطبقي أو آراؤه السياسية أو معتقداته الدينية، الأمر الذي يقتضي أن تكون النقابة واحدة غير متعددة، بما يجعل لصوتها قوة أكثر في الدفاع عن مصالح المنتسبين إليها.

ولذلك، فقد أحسن المشرع الدستوري المصري صنعاً بالنص على ألا تنشأ لتنظيم المهنة سوى نقابة واحدة، والله من وراء القصد…

زر الذهاب إلى الأعلى