نظرة إلى المحيط
نظرة إلى المحيط
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 24/4/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
لا شك توجد فوارق في الرؤية والمعرفة بين كتلة الآدمييـن وبيـن العلمـاء، ومع ذلك فإنه يجب أن تبقى هذه « الفوارق » في حدود نسب معقولة تسمح بوجود علاقات فعلية وتواصل وتعامل دائم بين الناس وبين العلماء، نسبًا تتيح لمن تسمح ظروفه ويتسع أمله وحماسه ـ أن يزيد من اقترابه من أهل العلم عن طريق الزيادة في معلوماته ومعارفه وخبراته.. وتجعل لأهل العلم نصيبًا واضحًا معترفًا به من الجماعة في توجيههـا أو خدمتها.
ذلك أنه إذا اتسعت الفوارق في الرؤية والمعرفة، اتساعًا غير معقول، أدى ذلـك إلـى « عزلة » كل فريق عن الآخر عزلاً تامًّا، وانقطع التواصل بينهما، فتنصرف كتلة الناس إلى أغراضها ومصالحها، وتنحصر في سطحية ما تمدها به الصناعة والتجارة من آلات وأجهزة ووسائل وطاقات أتاحتها وأفرزتها التكنولوجيا المستندة إلى علم واكتشافات العلماء.
هذا معناه أن تتعرض الكتلة العامة لمخاطر مادية ومعنوية بالغة، بأن تألف عدم الاتصال بالعلم إلاّ عن طريق منتجات المصنع أو سلع المتجر، وأن لا ترى العلماء إلاّ أشباحًا تتحرك تحركات غير مرئية خلف الشركات الصناعية والتجارية لخدمتها، وأنه من ثم لا شأن لهذه الأشباح بكتلة الآدميين ولا بهمومهم وشئونهم ومشاكلهم !
ومن شأن هذه العزلة أيضًا، أن ينصرف العلماء إلى الاعتكاف والتفرغ لدراساتهم ومختبراتهم ومعاملهم ومراصدهم ومؤلفاتهم ونشراتهم وجمعياتهم ومؤتمراتهم، وإلى السعي الدائم لتمويل ذلك وكفالة بقائه واستمراره بمعونات المؤسسات وكبار رجال المال ومنح الحكومات والجامعات ومراكز البحوث والأكاديميات والمعاهد المتخصصة والبيوت الاستشارية، فتتقطع الصلات ويتوارى فهم هذه النخبة للكتلة العامة وشئونها وشجونها !
ربما ساهم في هذه العزلة صعوبة المعادلات الرياضية والعلمية التي لا يفهمها العاديون، وضن العلماء المصريين القدماء بمعارفهم على العامة، ترفعًا أو اعتقادًا بأنه يكفي الجمهور ما معه من معتقدات وأفكار ليعيش بها في راحة وسلام. وقد رأينا شيئًا من ذلك في بخل فلاسفة الإغريق الأولين بآرائهم على العامة التي شغلتها أساطير هوميروس وتراجيديات أخيلوس وسوفوكليس ويوربيدوس، وهو ما فعله أيضًا كبار الصوفيين المسلمين حين احتفظوا لأنفسهم وخاصتهم برموزهم وأفكارهم الخاصـة خوفًـا عليها مـن « خلط » جماعات المريدين..
وهذه المواقف بغض النظر عن عللها، لم تنقذ علم علماء المصريين من الاندثار الذي صاحبه إغراق كتلة المصريين في الخرافات والفتن المبنية عليها، كما لم تنقذ فلسفة الإغريق الأولين من النسيان مع تدهور العامة وأساطيرها وناسها واختلافاتها وحروبها، وهو هو الموقف الذي لم ينقذ آراء كبار الصوفيين من الضياع مع ضياع منزلة جماهير الصوفية في الأراجيف والخزعبلات والمستحيلات !
ثم إن العلماء في عصرنا قوم متخصصون في موضوعاتهم.. لا يمتد تخصصهم فيها إلى سواها، ولا يؤثر هذا التخصص في حياتهم الخاصة أو العامة، فهم يمارسونها كما يمارسها جمهور الناس، وبنفس القدر من التلقائية بل والسطحية وقلة المبالاة والمحاكاة الإرادية واللاإرادية، وربما بذات الاقتصاد في المجهود والمال وفي كل ما لا يعود باللذة أو المنفعة أو المصلحة العاجلة أو الآجـلة !
أما التعليم الآن، وبالذات الجامعي في بلادنا، فقد انحصرت غايته الرئيسية في التأهيل لمهنة أو منصب يكون محل احترام ومصدر وجاهة ودخل معقول، ولم يعد من غايات التعليم في بلادنا ـ التأهيل لإيجاد علماء، فصار إيجاد العالم متروكا للمصادفات القليلة التي تهيئها موهبة خاصة أو تتيحها بعثة خارجية حيث يهتمون بإيجاد العلماء.
لا جدال في أن الشهادات العالية تزيد فرص المناصب، ولكنها لا تغنى عن الموهبة اللازمة للعالم، ولذلك نرى كثيرين من حملة هذه الشهادات يمضون أعمارهم في مراصد ومعامل ومختبرات، دون أن يوجد بينهم عالم واحد ينخرط حقيقة في سلك العلماء.
على أن العالم الموهوب، والمتعلم حامل الشهادة، أو بلا شهادة، وغير المتعلم ـ هم جميعًا آدميون كسائر الآدميين، لا يرون إلاّ بعيون وطبيعة الآدمي، ومن خلال أغراضه ومصالحه حين تتصل الرؤية بمصالحه وأغراضه، فما نحن كلنا إلاّ ثمرات في تلك الشجرة العجوز التي تتساقط مفردات ثمارها مع الأيام ثمرة وراء ثمرة !
من هنا تبدو أهمية العناية بالمحيط فهو الوحيد الدائم، ويبقى هذا المحيط بخير، قادرًا على التجدد والعطاء، ما بقيت الفوارق بين عامته وعلمائه ومتميزيه في حدود النسب المعقولة التي تضمن التواصل وتحقق للمجموع العام فرصًا أوسع في النماء والازدهار بعامته وخاصته على السواء !