مَوقِعُ سُلطاتِ الدَّولةِ الثَّلاث من الخِطابِ القانونيِّ الفَعَّال (6)
بقلم: د.محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
الخطاب القانوني نسق لغوي، وبنيان تعبيري يتميز بخصائص موضوعية وسمات شكلية على ما سيأتي…، وهو خطاب نوعي متفرد ذو طرز أدبي ونسق تعبيري ، وذو مدلول خطير يمكن أن ندفع به الشر المستطير حال حلول الجوائح ووقوع الطوارئ ….!!!!
وهو خطاب لا غُنية لأي من سلطات الدولة الثلاث عنه، ولا لأي من السلطات أو قل الهيئات والمؤسسات الممثلة لهذه السلطات على أرض الواقع كذلك عنه ،
والغفلة عن هذه الحقيقة ذات أثمان مرتفعة ، وقد تكلف الدولة الكثيرَ والكثيرَ ، بل قد تكلفها فقدان نظامها السياسي ….. وأمنها المجتمعي…. بل وإطارها القانوني ….!!!!!
والخطاب القانوني طاقة دفء وأمن وازدهار اقتصادي إن تمت العناية به ، وتم تحقيق بنيانه واستيفاء أركانه على الوجه الصحيح على نحو ما ذكرنا على مدار مقالاتنا السابقة …
كما أن الغفلة عنه وعدم أخذه بحقه وإهمال أيٍّ من أركانه وترك أحد عناصره …. تجعل منه خطابا منقوصا أو شائها …!!! وتسمح لغيره من خطابات الإرهاب والإرجاف أن تحل محله وتتبوأ محله …!!
والخطاب القانوني الشائه أو الناقص أو المنقوص أو ساقط البنيان منقوص الأركان إنما هو شعلة نار لا قبس نور …!!! بل هو شعلة ملتهبة… وقبسة لهب متقدة… قد تأتي على مقررات ومقدرات دول بأجمعها …!!!!!!
نسال الله الأمن والأمان لمصرنا ولسائر دولنا العربية وسائر دول العالم …اللهم آمين .
ومن أبرز السمات الشكلية للخطاب القانوني ذات الأثر والخطر ما يلي :
السمة الأولى: أنه خطاب السلطة العامة للدولة في الداخل والخارج
فهو لسانها وهو رسولها على المستوى الخارجي وعلى المستوى الداخلي وعلى المستوى البيني بينها وبين باقي السلطات سواء السلطة القضائية أو السلطة التشريعية .
فالخطاب القانوني ليس فضلة أو ترفا بالنسبة للسلطة العامة وإنما هو نسيج يسري في جنباتها وهو صوتها وهو سابق يدها التنفيذية…. وهو رسولها في التعامل مع مواطنيها…. أين كانوا وحيثما كانوا … !!!
وعلى الإجمال الخطاب القانوني يمثل السلطة العامة وهي تمثله أو هكذا يجب أن يكون .
أ-فهي تمثله في سلوكياتها الإدارية وإدارتها العامة باسم السلطة التنفيذية وباسم السلكة العامة ،بل وفي تعاملاتها كسلطة عادية وفي سائر حراكها. وهذا معنى كونها دولة القانون تقوم بالقانون وتأخذ بالقانون وتعطي بالقانون وتتنفس قانونا ، ويعبر عن كل هذا لسان واحد وخطاب واحد ألا وهو خطابها القانوني وله يخضع خطابها السياسي والاقتصادي وسائر الخطابات الأخرى …فإنما هو القانون ثم القانون ووفق القانون ….!!!
ب-وهو يمثلها في محافلها الإقليمية والعالمية إضافة إلى الخطاب الدبلوماسي ، وهو يتفرد بتلك المكانة حال وقوع مساءلات أو أحداث تستدعي من الدولة التعامل معها على الوجه القانوني قبل الوجه الدبلوماسي ، وسنأتي على ذكر نماذج لتلك الحالات وهذه السياقات….!!!!
السمة الثانية : أنه خطاب كل سلطات الدولة الأخرى وهيئاتها
سواء السلطة التشريعية أو السلطة القضائية … ومعهم السلطة الإدارية على نحو ما سبق وخاصة في :
1- المخاطبات الرسمية لهذه السلطات مع بعضها البعص… في:
أ-التعاون والتواصل والتكامل فيما بينها وفي إجماعها على المسائل الوطنية وفي الضرورات الملمة بالوطن.
ب-في حال التنازع –لا قدر الله – وفي حال اختلاف الرؤى حول أمر ما ، وهو امر صحي وطبيعي ما دام تفاعلا بناء وتنوعا هدفه الصالح العام … إذ لا يجوز لسلطة أن تجاوز الخطاب القانوني مع السلطة الأخرى مهما كان الأمر، ولا يجوز لسلطة أن تجور عن خطاب القانون إلى ما وراءه من خطابات أخرى يمكن التعبير عنها بأنها :
1-خطابات قانونية منقوصة .
2-خطابات قانونية شائهة .
3-خطابات لا قانونية بالجملة ، ومن ثم توصف بأنها خطابات عدائية أو مسفة أو خطابات عنصرية تحمل كراهية واستعلاء وتحض عليهما… (وهنا قل ما شئت من الأوصاف ) ….!!!!
السمة الثالثة : أنه خطاب الأزمات والطوارئ والجوائح العامة( داخليا وخارجيا)
وهنا بيت القصيد وغاية المريد في أهمية وخطورة الخطاب القانوني ، فالأزمات والطوارئ – الداخلية خصوصا- هي مُحتملات قد تقع لأي سبب كان وليس هناك ألبتة دولة محصنة منها ولا نائية عنها ، فالمجتمعات تتقلب ، والخطوب تثوب وتعود وتقبل وتدبر … !!!
ولكن هناك دولة مرنة تستطيع امتصاص تلك الطوارئ واستيعاب هذه الجوائح بأقل قدر من الخسائر وبأسرع وقت ممكن … !!!
وهنا يعمل الخطاب القانوني عمله ويفعل فعله في الترضية والتهدئة في جمع النفوس وفي إقناع العقول وفي جمع وتجميع واستجماع طوائف الشعب حول قيادته وحول سلطاته ….
وهنا يمكن طرح تساؤلات على النحو الآتي :
- ما الأزمات الكبرى والجوائح العامة التي يمكن للخطاب القانوني النفاذ فيها والحيلولة دون اتساعها؟؟!!
- ما أدوات الخطاب القانوني في التغلب على آثار المشكلات الاجتماعية العامة والتي قد تصيب قطاعات كبيرة من الشعب …؟؟!!!
- كيف يمكن لسلطات الدولة الاستفادة من الخطاب القانوني لضبط النظام العام وإحلال الأمن والسكينة العامة ؟!!!
- كيف يمكن لقطاعات الدولة الرئيسة من توظيف الخطاب القانوني في التفاعل والتعامل بكفاءة ونجاح مع قطاعات الشعب العريضة ؟؟!!!
- كيف يمكن للدولة تقويض خطابات الإرهاب والتطرف والكراهية من خلال تفعيل مُكنات وإمكانات الخطاب القانوني الفعال …؟؟!!!
وأسئلة كثيرة على هذه الشاكلة تطرح نفسها ويطرحها الواقع وبقوة …؟؟!! سيكون لنا عندها وقفات وعند غيرها من التساؤلات ، وقفات تأصيلية تفصيلية…..دلالية وتحليلية … فهذا موضوع مغفول عنه ولم يأخذ حقه في المعالجة والتناول ، ومن ثمَّ كان هذا جوهر كتابنا قيد الإصدار بعنوان “الخطاب القانوني بنيانه وأدواره …داخليا وخارجيا”
ولنعد الآن إلى متابعة ما سبق ذكره في المقال الخامس (الفائت) باسم “بنيان وأركان الخطاب القانوني الفَعَّال”، حيث استعرضنا فيه لغات القانون الخمسة منوهين ببنيانها وحبكتها وخصوصيتها التعبيرية الرفيعة ذات السمات البنائية والخصائص التركيبية.
وقد خلصنا فيه إلى أن لغات القانون الرئيسة إنما هي خمس لغات تعرضنا لأربع منها وهي:
اللغة الأولى: لغة النص القانوني” لغة نص القانون”
وقوامها ” النص القانوني ذاته ” سواء دستورا أو قانونا أساسيا أو تشريعا عاديا أو لائحة أو قرارا عاما أو مفردا ….
اللغة الثانية: لغة فقه القانون
وهي لغة تتعلق بالنص القانوني السابق أيا كان ذلك النص من حيث مدلولاته ودلالاته ومقاصده ومراماته المباشرة والضمنية واللزومية …
اللغة الثالثة: لغة الحكم
وهي تلك اللغة الحاسمة ، لغة الفصل والقضاء ، وهي الموقِّعةُ عن العدالة ، وهي لسانُها الناطق ، وهي لغة في جملتها تُعنى بمطابقة النص لوقائعه وإسقاطه على مُتعلقه والوقوف على نماذجه حيث إثبات التأثيم والتجريم أو رفع ذلك التجريم
اللغة الرابعة : لغة الدَّفع والدِّفاع
وهي لغة الدفاع الحقوق وحمايتها ولغة الدفع عن مبادئ العدالة والزود عن جناب الحق ومراكزه ومتعلقاته ….. وهي لغة يُعنى بها على نحو أكثر السادة المحامون شركاء السلطة القضائية بنص الدستور .
أما عن اللغة الخامسة أو ما نسميه “الخطاب القانوني” وهي الأخطر أثرا والأهم مكانة فقد تأدَّى بنا المطافُ على نحو ما سبق من مقالات إلى تبنَِى تعريفا نراه تعريفا علميا جديرا بالاعتبار والاستحقاق ، بعد طول إمعان في الخطاب القانوني وما كتب حوله وبعد مراجعة واقعه التطبيقي ، فالخطاب القانوني على سبيل الإيجاز والتكثيف اللفظي هو :”“تعبير مقصود من مُرسِلٍ قانوني إلى مُخَاطَبٍ ما يحملُ رسالةً واضحة بهدف اقناعه وإلزامه بها”.
وببعض من التركيز مع البسطة عرفنا الخطاب القانوني بأنه : “تعبير (لفظي أو مكتوب – مباشرا أو غير مباشر ) بأسلوب مخصوص وتراكيب ملائمة) يتم توجيهه من مُرسل ذي صفة قانونية(يمثل منصَّةً قانونية رسمية أو مساعدة) يحمل رسالة قانونية اجتماعية (مضمونا قانونيا اجتماعيا سياقي) يستهدف به مُخاطَبا ما ( كافة الشعب أو فئة أو طائفة أو جماعة منه) لغاية إقناعه بها وإلزمه بمضمونها .
أما عن بنيان هذا الخطاب فهو كما راينا يمثل لونا مستقلا من ألوان لغات القانون الخمسة على نحو ما سبق، فهو خطاب جامع لكل ما قبله من خطابات ولغات ، بل هو ناتج سابقه من تلك اللغات ؛ إذ تجتمع عنده ولديه لغة النص ولغة الشرح ولغة الحكم ولغة الدفع ، فيتشكل هو منها في جملته ، ومن تشكله الجمعي هذا يأتي تميزه ويتجلى لنا ما تفرد به من لون رسمي ومجتمعي وتعبيري يتعدد ويتشكل بتعدد المخاطبين وتنوع المستهدفين …. وبنيانه يتمثل في الآتي :
البناء الأول : أركان الخطاب القانوني
وهي أركان وركائز هذا الخطاب القانوني وبسقوط أحدها يفسد الخطاب ولا يعتد به ، بل لا يمكن تصوره دون هذا الركن ، وأركانه خمسة هي :
الركن الأول : المُرسِل القانوني .
الركن الثاني : المُستقبِل الشعبي (الوطني) أو المقيم .
الركن الثالث: المضمون أو الرسالة .
الركن الرابع: التعبير والأسلوب.
الركن الخامس : الغاية والهدف.
وهذه أركان خمسة متكاملة وقد قصدنا ترتيبها على هذا النحو وهو ترتيب مبنِيٌّ على منطق الاقتضاء ، فكل ركن يقتضي لاحقه وكل لاحق يقتضي سابقه ، وهو أقرب إلى أن يكون من باب المنطق العقلي البدهي ، وسنأتي على تحليل ما سبق وتفصيل دقائقه.
البناء الثاني : عناصر الخطاب القانوني
وهي لازمة لاستكمال هذا البنيان وتعزيزه وهناك عناصر ثلاثة رئيسة جامعة وضامنة لإتمام بنيان الخطاب القانوني الفعال ، ولتحقيق أثره وإصابة غايته وهي :
العنصر الأول : الإقناع .
وهو عنصر رئيس لاستكمال بنيان الخطاب القانوني ، فدونه يصبح الخطاب أمرا استعلائيا جافا ونصا جامدا لا يصلح لمخاطبة مجتمعات عاطفية انفعالية لديها من الظروف ويحوطها من السياقات ما لايتسع خطابا قانونيا أو غير قانوني آمر ناه ملزم لازم … حتما سيثورون عليه …حتما سيظاهرونه العداء ، ومن يتقبله منهم فلى كراهة واستكراه وما يلبث أن ينزعه ويقده وينقض عليه حال رفع الاستكراه عنه ….. ولا ننس تجربة الخطاب القانوني بصدد إقرار قانون التصالح في مخالفات البناء ، حيث لم يكن الخطاب القانوني فعالا ولم يستوف جميع أركانه وعناصره …!!! ولنا مع هذا وقفة تحليلية
العنصر الثاني : الملطفات.
والملطفات كلمة عامة جامعة لكل ما يمكن تحقيقه وإنفاذه أو على الأقل تحقيق بعض منه ، أو حتى الوعد بتحقيق الكل أو البعض ولكن وعدا رسميا ملزما للقائمين على الخطاب القانوني ، بما يحقق غاية الملطف في قبول الإلزام والانصياع إلى الالتزام بمضمون رسالة الخطاب القانونية
ونظرا لأهمية تلك الملطفات ودورها الخطير في تسكين النفوس وكبح ثورانها وتقلبها وكف جماحها …فلسوف نتناوله بمزيد من التفصيل والتأصيل لاحقا.
العنصر الثالث السياق.
السياق هو ذلك الخط الزمني وما يحوط به من إحداثيات عامة وأحداث خاصة، يتأثر المخاطب المستهدف بالخطاب القانوني بها مباشرة ، وهي جملة سياقات لا يكاد ينفك المجتمع عنها ومن ثم يتوجب مراعاتها وتكييف الخطاب القانوني في ضوئها ، وهي من الأهمية بل من الخطورة بمكان ، إذ الغفلة عنه والصد عن مراعاته يورث الوبال وقد يتسبب في انفجار اجتماعي وفي تقلبات عارمة قد تصل إلى حد الثورة العامة على الواقع والوقائع والنظام الاجتماعي والقانوني بل والنظام السياسي برمته ، وقراءة التاريخ المجتمعي ليست ببعيدة عنا ويمكننا مطالعة أحداق وأحداث في إقليمنا وفي العالم حولنا يرجع سببها إلى إنكار واستنكار ذلك السياق والاستنكاف عن مراعاته ومراعاة مقتضياته وضروراته …!!!
وعليه فلا يمكن لنا تحقيق خطاب قانوني وافي الشرائط مستكمل البنيان مستوفي الأركان دون تحقيق (ماصدق) هذا السياق ، وسنأتي على ذلك تفصيلا وتحليلا في حينه….
البناء الثالث : شرائط الخطاب القانوني
هي تلك الشرائط العامة للخطاب القانوني في مجموعه، كما ونعني بها الشرائط المتعلقة بأركان ذلك الخطاب وبعناصره ، وقد نذهب عميقا بأن نقصد بها شروط أجزاء الأركان والعناصر …فهي وإن كانت أجزاء إلا أنها ذات اثر كبير والغفلة عنها شر مستطير …!!!!!
فعلى سبيل المثال لو نظرنا إلى الركن الأول من أركان الخطاب القانوني وهو المرسل القانوني سوف نلحظ تعدد المرسلين بتعدد منصاتهم القانونية ولا تخرج تلك المنصات عن الآتي :
أولا: منصة السلطة التنفيذية ( السلطة الإدارية في الدولة أو أحد ممثليها أو المتحدثين الرسميين بها).
ثانيا: الهيئة تشريعية ( البرلمان ولجانه التشريعية خاصة أو أحد ممثليه في الحديث باسمه)
ثالثا: الهيئة القضائية (ممثلو السلطة القضائية) من القضاة وأعضاء النيابات.
رابعا: هيئة التنفيذ القانوني هيئة الشرطة وخاصة مأموري الضبط القضائي ثم رجالات السلطة العامة)
خامسا: هيئة الدفاع وهم السادة المحامون، وتمثلهم نقابة المحامين والكيانات المنبثقة عنها.
سادسا: هيئة أعضاء تدريس القانون وأساتذته، معلمو القانون وفقهاؤه .
سابعا: الهيئات القانونية المساعدة المساعدون من الخبراء وأقلام الكتاب وأقلام المحضرين وغيرهم
ولكل مرسل في منصته شرط لابد أن يستوفيه لاستكمال بنيان الخطاب القانوني حتى يصبح خطابا فعالا منتجا …..وهو ما سنفصله في باقي المقالات .