مَنْ جَدَّ وجد
مَنْ جَدَّ وجد
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 5/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
لا يولد أحد ومعه أفكار . بل يولد ومعه استعداد للانتفاع بها ونقلها وتطويرها على درجات مختلفة في هذا الاستعداد، واختلاف درجات هذا الاستعداد ملحوظ في كل جماعة بشرية كانت أو تكون، وإليه يرجع في الغالبية وجود الكتل ككتل وهبوط مستواها الفكري بالقياس إلى سواها من الطبقات في أي جماعة كانت أو تكون !
وكل مولود يلتقط منذ أن يولد ما ينفعه من الأفكار الجارية في محيطه الذي يتسع باستمرار وعلى قدر ما يهيئه ذلك المحيط ويسمح به، لأن المحيط هو أساسا خزانة الأفكار . وحياة الأفكار هي حياتها ووجودها في محيط . إذ هي لا شيء إلاّ اكتتاب في رأس المال العام الفكري من هذا أو ذاك خلال انتفاعه بما يلتقطه من الأفكار الجارية في محيطه وأياً كان هذا الانتفاع توكيداً أو تطويراً أو تنفيذاً أو تعديلاً أو إلغاءً.. بناء أو هدماً تقدماً أو تأخراً.. صواباً أو خطأً، صدقاً أو كذباً، حلالاً أو حراماً، ذكاءً أو غباءً، علماً أو خرافة !!
وقد يبدو من الرضيع أو الصبى أنه يأخذ ولا يعطى، لكنه بوجوده والتفات الكبار إليه يكتتب ــــ في رأس المال العام الفكري، ثم لا يلبث أن يشب ويحاول بدوره أن يفكر مستعملاً ما التقطه وعالجه أو عامله في استخدامه وتجاربه وفهمه.. ويعرض ذلك على من حوله مدفوعاً بالخاصية الأساسية للأفكار وهي حرصها على الانتشار والإذاعة أي على ملء خزانة المحيط.
وفيما يبدو أن الاستعداد الذي يولد مع الآدمي لالتقاط الأفكار والانتفاع بها وتطويرها ـــ ليس استعدادًا ثابتًا.. إذ ليس في حياة الأحياء شيء ثابت . ولا أعرف شخصيا إن كان هذا الاستعداد قد أخضع لقياس ما كما أخضع الذكاء أو الغذاء الكافي أو معدل الأعمار
أو الاستعداد لبعض الأمراض . فالحديث عنه ما زال حديثاً عاماً غامضاً قليل الجدوى والنفع لواقع الآدمي .
ولكن ربما كان من الخير أن نلتفت إلى وجود ذلك الاستعداد، وأنه وجود لإمكانيةٍ فقط من إمكانيات الحياة الآدمية يحتاج تحققها إلى الوجود في محيط كافٍ لوقت كافٍ يسمح بالاستمرار والنمو والتطور بعد خروج من الرحم إلى العالم الذي تستعمل فيه الحواس ويتبادل فيه الآدمي مع محيطه الأخذ والعطاء إلى آخر عمره ويترك في محيطه بعد أن يغادره أشياء اكتتب بها وانضافت دون أن يشعر في الغالب ـ إلى رأس المال العام الفكري في مجتمعه .
لذلك ينبغي حين نحتفي بالأصالة والإبداع والنبوغ والعبقرية وسعة العلم وفيض الحكمة وندرة الذكاء واجتماع الكفايات ـ أن نتنبه إلى أننا إنما نصف درجات في ذلك الاستعداد لالتقاط الأفكار والانتفاع بها وتطويرها وأننا جميعاً نسقى من ماء واحد ويختلف بعضنا عن بعض في الأكل وأننا جميعًا أحياء وماؤنا الواحد حىّ يتغير ويتطور كما يتغير ويتطور كل حىّ وسقيانا منه هي الأخرى تتغير وتتطور أيضًا وباستمرار إلى الأمام أو إلى الخلف !
وعدم رضانا بما يتعين ويحدث باطراد في حياتنا ـ قد يبدو أنه شيء يتعارض مع تمسكنا بالحياة وحرصنا عليه، لكن واقع الحال أننا نتمسك بالحياة نفسها كما هي كإمكانيات واستطاعات وآمال ورغبات ومخاوف ولا نتمسك بحوادثها وتعييناتها سواء المنسوبة إلينا أو المعزوة إلى الآخرين أو الطبيعة.. ويبدأ تمسكنا بها يضعف حين يداخلنا شك قوى بأن حياتنا ليس فيها أكثر مما تعين وحدث فعلا ورأيناه ورآه غيرنا منها.. عندئذ نبدأ نفقد إيماننا الفطري أو الطفلي بها وبجعبتها التي لا تنفد وتخبو ثقتنا بأن عندها ما قد يرضينا أو لا بد أن يرضينا بطريقة أو بأخرى رضا ليس تافها ولا عرضيا ولا وهميا !
ونحن نعيش أغلب الوقت دون أن نهتم بالحكم على حياتنا وقيمتها ـ وهي قيمة على كل حال مهما كانت، وهذا قد يفسّر إنفاقنا وبعثرتنا وتبديدنا لها كيفما اتفق بلا حساب ولا غاية وترك الآخرين يدفعوننا إلى إنفاقها وتبديدها بلا عناية ولا احتفال كأن فكرة الجدوى غير أصيلة بالنسبة للحياة.. ولكن الخلط بين الجدوى وبين العناية غير معقول بالنسبة للحياة.. فالحياة تستلزم العناية بها، وإذا كانت الجدوى سؤالاً لا تسأله الحياة الطبيعية وإنما يسأله عقل الإنسان فقط ــــ فإن العناية تتطلبها الحياة والطبيعة وتلاحظانها في أدق الأشياء وأكبرها !