من ديوان العبر !
من ديوان العبر !
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 19/6/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
ديوان العبر، في تاريخ وتقلبات الحياة، ديوان عامر، لا تفرغ منه العبر، ولا يخلو منها زمان، لا في الماضي القريب، ولا في الماضي الغابر.. أما عبر الحاضر، فمشروعات تحت وقف التنفيذ، إلى أن يأتي قادم، في قابل الأيام، ليستكشف العبرة بعد أن اكتملت خيوطها، وصار من الممكن تشخيصها والتعرف على ما كان ـ في الحاضر الآن ! ـ فيها. من علل التاريخ، أو علل الناس، أن عيونهم ضريرة أو تكاد، لا تقدر على رؤية الحقيقة إلاّ فيما فات !
يحكى في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، أن الملك النعمان أراد أن يبنى قصرًا فخيمًا، لم يسبق إليه زمن، ولا أدركه حاضر، ولا ناظرته عيون. عهد إلى « سنمار» البناء الرومي، صاحب الفن والقدرة والامتياز، أن يبنى له القصر.. قصر « الخورنق ».. كان ذلك في الجاهلية، بناه سنمار بقريب من الكوفة.. تحفة معمارية، أخذت لب النعمان وهو يتفقدها مع سنمار الذي جعل يشرح له كل جميل يراه، والملك النعمان لا يقاوم تأوهات الإعجاب مما يراه !
استخف سنمار إعجاب الملك ببراعته ومعجزة بنائه، فأفلت لسانه بسرٍّ يكمن في « آجرة » لو رفعت من مكانها أو أزيلت، انهار بناء الخورنق.. القصر الرائع الفخيم الذي بناه سنمار وفي قبضته وحده سر هدمه.. ماذا لو تسرب السـر، أو غدر سنمار وخان ؟!.. لا يحسن إذن أن يعيش سنمار بسره الذي يمتلك مصير القصر الذي بناه !..
طفق الملك النعمان يتحرى حتى استوثق من أن السر لا يزال في قبضة سنمار، لم يطلع عليه أو يعرف به أحد.. اصطحب الملك مستخدمه سنمار ليطلعه على المشهد من أعلى القصر، فلما استويا هناك، ألقى به الملك من شاهق ليموت بسره، وينعم الملك بقصره الذي لا يجب أن يملك زمامه سواه !
طفقت العرب، بعد هذه الحادثة، تضرب بها المثل فتقول: «جزاه جزاء سنمار» !.. كناية عن شر ما يلقاه من خدم وبذل وقدم وأفاد، فلا يجزى إلاّ بما يُجزى به اللئام !.. أو كما يقال في الأمثال: « آخر خدمة الغُز علقة » !!
ديوان العبر مليء بالقصص والحكاوي، ولكن الاعتبار بها قليل نادر.. لو اتعظ حاضر بماض، لما وجد المستقبل عبراً في الحاضر السابق عليه، ولأقفر ديوان العبر، من الحكاوي الباعثة على الاتعاظ !
المخلص المجد المجتهد المتميز الذي بنى، لم يأمن غدر الذي خدمه وأقام له البناء. فهل تضمن المصانعة أمانًا لما تبذله من نفاق ورياء وزلفي !!.. مشاهد الحياة لا تفرغ من مفارقات تخرج للحاضر لسانها، تقول بحكمتها الخالدة: وتقـدرون فتضحك الأقدار !.. كم من أقدار ضحكت في الماضي، وكم من أقدار نراها تضحك وتخرج لسانها في الحاضر.. فهل ستتوقف لعبة الأقدار ؟.. ولكنه الإنسان، يأبى إلاّ أن يعيش ضريرًا لا يرى إلاّ حين تجيئه سكرة الموت بالحق الذي كان عنه يحيد، ويوقظ من غفلته فيما أخبر به الوارث الباقي في قرآنه المجيد: « لَقَدْ كُنتَ في غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ » !