من تراب الطريق(1204)

بقلم : رجائى عطية نقيب المحامين، رئيس اتحاد المحامين العرب
نشر بجريدة المال الأربعاء 20/10/2021
الإمام الطيب والقول الطيب (37)
خلاصة
ـــــــ
يعتذر فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب للقارئ إذا كان قد أطال عليه فى شىء يعرفه ، ولكنه أراد أن ننتهى إلى أن « أسباب النزول » فى تراثنا القديم لا تعنى ـ كما يقول صاحب
« التراث والتجديد » ـ ربط الوحى الإلهى بالواقع ، كما لا تعنى تعديل الواقع حسب الوحى ، ولا يفهم من أسباب النزول أن الوحى ليس مجموعة من الحقائق الثابتة الدائمة ، أو أنه تفسير لظرف معين أو موقف تاريخى محدد وعند جماعة خاصة ، بل إن الذى يُفهم من أسباب النزول ـ بعد تمحيصها الواجب وتصحيح رواياتها ـ أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب .
ومن الغريب اللافت أن صاحب « التراث والتجديد » الذى جعل الوحى تابعًا للواقع الذى نزل فيه ، وبذل جهدًا شاقًّا من أجل تمرير ذلك وترويجه ، يتنكر لذلك فى مواضع عديدة أخرى فى مشروعه ، بما يؤدى إلى الحيرة والدوار لمعرفة ما يريده ويتبناه ، بتناقضات تنفى ما تثبته ، وتثبت ما نفته ، ثم يعود فيهدم ما أثبته ، ليتبنى ما نقضه فى موضع آخر ، فيما أسماه بعض المعلقين على المشروع « رقصة المتناقضات !! » ، وعلى ما سوف يتجلى أكثر فى باقى فقرات هذا المبحث ، مما لا بد لكل باحث من الإلمام به حتى يشق طريقه الصحيح فى التعامل مع تجديد التراث .
والتراث القديم وفقًا لما حدده مؤلف « التراث والتجديد » ، هو فيما يقول روح الأمة ومصدر قوتها ومحرك جماهيرها بما يمدها من تصورات وقيم ، وأنه من ثم جزء من الواقع
لا تزال أصابعه « الخفيَّة » ـ فيما يقول ـ تحرك الناس على مسرح الواقع المعاصر .
وليس لنا أن نتوقع لدى تلك النظرة ، فيما أبدى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب ، وجود تفرقة حاسمة بين التراث كمبادئ خلاَّقة فى حياة الأمم ، وبين الممارسات الخاطئة التى تحسب على الأفراد أتباع التراث لا على التراث نفسه .
وهذه التفرقة ـ الواجبة ـ اختفت تمامًا من اهتمامات المشروع وهو يتحدث عن التراث وتأثيراته فى الحياة المعاصرة ، لتحل محلها « علاقة عضوية » مصنوعة ـ أو مصطنعة ـ بين التراث كمضمون وقيَم ومبادئ موجهة للسلوك ، وبين حالة التخلف التى تعيشها الأمة الإسلامية الآن .
وهذا التراث فى عرف صاحب نظرية « التراث والتجديد » ، هو العلة الحقيقية لكل مشكلاتنا المعاصرة وعجزنا وانحطاطنا وتخلفنا ، وفيما نعانيه الآن من لا مبالاة وسلبية وتواكل هو أثر الإيمان بالقضاء والقدر فى التراث ، وما استقر فى مناهج تفكيرنا المعاصر من خلط بين العقل والوجدان ، فنخطب ونظن أننا نفكر ، ونفتعل ونظن أننا نفعل ، والسبب أن العقل فى التراث القديم الموروث ، كانت مهمته « تسويغ الدين » ، وأن العقل لم يستقل على الإطلاق ، ولم يوجه نحو الواقع إلاَّ فى علم أصول الفقه ، والذى انتهى أيضًا ـ فى نظره ـ إلى الثبات وتحجير الأصول وتغليبها على الواقع بحيث لم يبق إلاَّ التقليد !
وقد أسرف صاحب هذا النظر على نفسه وعلى الحقيقة ، فيما رصده من مظاهر سلبية عزاها جميعًا إلى التراث القديم الموروث ، حتى اعتسف ـ مثلاً ! ـ علاقة بين الإلهيَّات والطبيعيات فى التراث ، وبين ازدحام الناس فى سيارات النقل العامة ، حاملاً فى شطط يفتقد إلى المقومات الصحيحة على كل تراثنا الفلسفى ، وعلى علوم الفقه الإسلامى التى أورثت فى نظره عللاً عقلية ، وعلى التصوف الذى يراه يقاوم الانحراف بانحراف آخر هو الرجوع إلى الوراء ، مع هروب علومه وتحليلاته من عالم العقل ، معتمدًا وفى منهج غير علمى على تزييف الحقائق والتناول الهازئ الساخر ، لينتهى فى اعتساف غريب لا يتفق مع التحليل العلمى إلى أن هموم فقهائنا وعلمائنا لم تكنْ فقه الثورة أو فقه العدالة الاجتماعية أو التحرر من الظلم ، وإنما كانت همومهم منحصرة فى أمور تافهة !!
وأنت لا بد تحتاج إلى صبر طويل لاحتمال هذه المغالطات ، وإنكار آلاف الكتب والمجلدات للفقهاء والعلماء المسلمين فى الإصلاح وفى العدالة الاجتماعية وفى التشريع وفى مقاومة الظلم ، وأنت لا بد تحتاج إلى صبر أطول إزاء تشخيص حياتنا بأن الإنسان محاصر فيها وفقًا لتراثنا القديم ـ بين الإلهيَّات والطبيعيات فى الفلسفة ، ومبتلع فى علم التوحيد ، وفانٍ فى علوم التصوف ، وممحوق فى علوم التشريع ، وأننا على حد تعبيره ـ « نعمل بالكندى ، ونتنفس الفارابى فى كل لحظة ، ونرى ابن سينا فى كل الطرقات » ، ليخلص بعد تجاهل غريب لقائمة العلماء المسلمين المعطائين فى كل هذه المجالات إلى أن تراثنا القديم حىٌّ يُرزق ، يوجه حياتنا اليومية المعاصرة !!!
زر الذهاب إلى الأعلى