من تراب الطريق (1231)

بقلم :الأستاذ رجائى عطية نقيب المحامين

نشر بجريدة المال الاثنين 29/11/2021
الإمام الطيب  والقول الطيب
رسالة الأزهرى
(64)
ـــــــــ
اغتنم الإمام الأكبر مناسبة الاحتفال بتكريم أوائل كليات جامعة الأزهر ، فى 23 من ذى القعدة 1438 هـ / 16 أغسطس 2017 م ، ليتحدث عن رسالة الأزهرى ، وهذه كلمة لها مغزاها فى تلك المناسبة ، أنه بلا فهم رسالة الأزهرى والالتزام بها ، والقيام بأعبائها ، يغدو التفوق فى درجات التعليم ، مقصوص الجناح .
يتحدث الدكتور الطيب عما تختزنه جدران الجامعة الأزهرية على مدى ألف عام ، من حضارة نيف وأربع عشرة قرنًا من الزمان .. تواصلت فيه عبر روادها وحملة مشاعلها ، من علماء الأزهر الشريف المخلصين ، المنتمين إلى مآذنه وقبابه وأروقته ، والمتمسكين بمنهجه الوسط فى العلم وفى التربية ، وما يؤسسه هذا المنهج الوسطى من علوم ومعارف ، وثوابت وأصول وقواعد ، والبراهين البيّنة على قيام الإسلام على العدل والمساواة ، وتراحم وإنصاف ، وشعور دافق بالأخوّة الإنسانية المشتركة التى تربط بين المسلم وبين سائر عباد الله فى الأرض ، هذا الشعور الذى عبَّر عنه نبى الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى قوله : « الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ ، فَأَحَبُّ الْخَلْقُ إِلَى اللَّهِ مَنْ أَحْسَنَ إِلَى عِيَالِهِ » . وكان يردد فى أعقاب صلواته قوله الشريف : «… أنا شهيدٌ أنّ العِبادَ كُلَّهم إخوةٌ … » .
هذا ، ولا يزال الأزهر الشريف ـ بأبنائه الشرفاء الأوفياء لدينهم ولمنهجهم الأزهرى ـ يترفعون بعلمهم ونباهتهم أن ترتهن عقولَهم وأذهانَهم ضلالاتٌ عقدية أو فكرية أو سلوكية ، ينفر منها الصغير قبل الكبير ، ويزدريها الجاهل قبل المتعلم ، والخامل قبل النابه ، ويرفضها كل من له فطرة نقيّة لم تفسدها مطامع الهوى ومهلكات المال والجاه والسلطان .
لا يزال هؤلاء الأزهريون يحملون على عواتقهم مهام الدعوة إلى المؤاخاة ، وإلى التعايش والاحترام المتبادل ، ويسعون فى الشرق والغرب برسالة السلام بين الناس ، وقد تعرَّف كثيرٌ من رجالات الدين والفكر فى الغرب على رسالتهم ، ولقيت من نفوسهم تقديرًا ، فاضت به رسائلهم الرّزينة المتّزنة ، التى أرسلوا بها إلى الأزهر الشريف ، وكانت رسائل تتَّسم بالعقلانية والمنطق والاتّزان ، بقدر ما تتنزّه عن السفسطة والمغالطات .
ومن واجب هؤلاء المتفوقين ، أن يعلموا علم اليقين أن أزهرهم هذا إن كان فى الأصل مؤسسة علمية وتعليمية ؛ فإنه فى الوقت نفسه كان ـ وسيظل ـ مؤسسة ذات رسالة أخلاقية ، وأن مناهجها العلمية مصمَّمةٌ بحيث تصوغ العقول فى أطارين متشابكين ؛ إطار من العلم ، وإطار من الأخلاق معًا .
وقد مَثَّل الأزهر بهذا المنهج كعبة الوسطية ، والقمر المشعَّ الذى يُفتقد فى الليلة الظلماء فى تاريخ المسلمين ، وسوف يظل الأزهر كذلك ما ظلَّ معبّرًا عن ضمير هذه الأمة الوسط ، « وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا » ( البقرة 143 ) .
والذى يتأمل تاريخ المسلمين يعثُر على علاقة خفيّة بين تأثير هذا المنهج الوسطى ، وبين حماية تاريخ الإسلام من الانزلاق إلى ما انزلقت إليها أممٌ كثيرة من الصراع المسلح والحروب الدينية المدمّرة ، التى كانت تندلع بسبب النزاع العقدى والمذهبى والطائفى .
ويعزى إلى هذه العلاقة ، أن تلك الصراعات المذهبية التى شغلت كثرة فى العالم الإسلامى ، لم تجد لها مجالاً فى مصر . تفسير ذلك فى التزام علماء الأزهر بمنهج القرآن الكريم ، والسنة المطهرة ، الذى أوجزه الرسول عليه الصلاة والسلام فى قوله :
« مَن صَلَّى صَلَاتَنَا واسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا ، وأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذلكَ المُسْلِمُ الذي له ذِمَّةُ اللَّهِ وذِمَّةُ رَسولِهِ ، فلا تُخْفِرُوا اللَّهَ في ذِمَّتِهِ » ، أى : لا تخونوا الله فى تضييع حق مَن هذا سبيله.
هذا المنهج لا يؤمن بالإكراه على الدين ، ولا بالمساومة عليه : إغراءً أو إكراهًا ، وهو ينبذ التّفتيش عما تُكِنُّ الصدور ، ويقرُّ حرية الاعتقاد ، ولا يُكفِّر المسلم إلاّ بحجة وبرهان ساطع سطوع الشمس فى رابعة النهار ، ولا يُصادر على الناس حرياتهم فى أن يعتنقوا من العقائد ما يشاؤون ، وقد وَكَلَ اختيار الناس عقائدهم إلى حرياتهم الشخصية ، بعد ما أوضح أمامهم طريق الحق وطريق الباطل .. « وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ » ( الكهف 29 ) .
وهذا المنهج هو ما تبنّاه الإمام الأشعرى فى مذهبه المعروف ، وهو
ما يستمسك به الأزهر الشريف ، ويُعلِّمه لأبناء المسلمين فى شتى بقاع الأرض لما يتضمنه من توسُّط ويُسر ، ورفع للحرج فى الدين ، وتقديس للنَّص ، ومنزلة للعقل ، ورفعة لشأنه .
زر الذهاب إلى الأعلى