من تراب الطريق (1221)
الإمام الطيب والقول الطيب (54)
نشر بجريدة المال الاثنين 15/11/2021
ــ
بقلم : الأستاذ/ رجائى عطية
من مستحدثات الأزهر الطبباة , أنه قد أنشأ « المركز البريطانى » بالأزهر , ليهىء لطلابه تعلم اللغة الإنجليزية , وهو ما يؤهلهم للقيام بالدعوة الإسلامية , فى البلاد التى تتحدث الإنجليزية , وقد لا تتحدث سواها .
فى الاحتفال بتخريج الدفعة الثانية من المركز البريطانى بالأزهر , بقاعة الإمام محمد عبده , فى ذى القعدة 1432 هـ / أكتوبر 2011 م , تحدث اليهم الإمام الطيب , فأبدى أنه يلخص كلمته فى نقاط ثلاث .
الأولى : أنه بات من الواجب الدينى والعلمى تهيئة الأسباب لكتيبة أزهرية من طلابه , تكون مهمتها وصل ما انقطع بين علوم الأزهر وتراثه الخالد , وبين معارف الغرب وفلسفاته وثقافته المتطورة دائمًا , وبخاصة فى مجال العلوم الإنسانية والفلسفة الإجتماعية , بل الدينية أيضًا .
وقد كان للأزهر منذ القرن التاسع عشر صلة بالغرب الحديث ؛ وذلك منذ عهد الشيخ رفاعة الطهطاوى , الذى رافق أول بعثة مصرية إلى فرنسا , فى مطلع ثلاثينيات القرن التاسع عشر , وتواصل مع شيوخ كبار فى القرن العشرين , بعضٌ منهم فى كلية أصول الدين , وتتلمذت عليهم أجيال أفادت من مناهجهم فى البحث والتأصيل والتنظير والترجيح .
وبعض هؤلاء الشيوخ عانى الأمرين فى سبيل الوصول إلى الغرب واستكمال الدراسة ..
فضيلة الشيخ عبد الحليم محمود ؛ ذهب إلى أوروبا , ودرس على نفقته الخاصة , والعلامة الشيخ دراز ؛ ذهب إلى أوروبا بعد ما استكمل أستاذيته فى الأزهر , وكان أستاذًا بكلية اللغة العربية .
لكن حدث بعد ذلك ما يشبه الانقطاع , وتوقف هذا التواصل فى وقت صار الأزهر فيه بحاجة ماسة إلى معرفة ما يدور وراء البحار ؛ من علم وتعليم , ومن مناهج بحث ؛ فثورة الاتصال , وتدفق المعلومات والثقافات , وطوفان المعرفة ـ يفرض فرضًا أن يكون للأزهر وجود فاعل محرك للأحداث , وضابط للثقافات على منهج الحق والخير والجمال .
ومصر الآن , وهى تشن حربًا شعواء على الفقر والمرض والجهل , وتطمح إلى الصدارة فى منطقتها العربية والإسلامية ـ لابُدَّ لها من أزهر قوى , وجامعة جامعة بين التعمق فى التراث , والإلمام الجيَّد بكل مستحدث يتعلق بعلومنا وتراثنا .
ولا يصح أبدًا أن يترك تراث الأزهر للمستشرقين ولتوجهاتهم التى تتذبذب كثيرًا بين الحق والباطل , والصدق والكذب .
والتأكيد على هذا الاتصال ؛ لا يعنى أبدًا التهوين من التخصصات الدقيقة فى العلوم الأزهرية , أو من شأن الطلاب الذين تفرغوا لدراستها والتعمق فيها ..
فهذه الكتيبة المتخصَّصة فى تراثنا ؛ بحثًا , وتعليمًا , وتأليفًا , وتحقيقًا ـ هى الأصلُ , بل هى الدرع الواقى والمصدُّ الذى يوقف الرياح العاتية , لكنه لا يُغنى عن كتيبةٍ أخرى تتكاملُ مع كتيبة التراث وتخدمها , وتنقل إليها , وتنقل عنها .
إن الأزهر يحتاج إلى معارف الغرب , وإنَّ الغرب ليحتاج لحكمة الأزهر , وبيانه الإلهى والنبوى ..
وأمرٌ آخر ، فرض النظر إلى هذا المركز نظرة إنصاف وحرص وتقدير ؛ هو هذه العلوم التى تحتاجها الكليات الأزهرية الدينية ، والتى تتصل بها اتصالاً قويًّا ؛ مثل الفلسفة والمنطق الحديث ومناهج البحث والاستقراء ، ومثل علم مقارنة الأديان السماوية والوضعية ، ومثل الاستشراق فى الحديث وعلومه والتفسير وعلومه .. ومثل مذاهب النقد الحديثة والقانون ، وغير ذلك .
فهذه المجالات يتخصص فيها ـ الآن ـ علماء كبار من غير المسلمين ، وهم موجودون على مسافة مرمى من حجر من قاعة الإمام محمد عبده , حيث تقع مكتبة معهد الآباء الدومينيكان ؛ من يذهب إليها ، سوف يتعرف على الرسائل العلمية التى تتناول بالبحث المفسرين ، والمحدثين ، والبلاغيين ، واللغويين ، والفلاسفة ، والصوفية ، والفقهاء ، والأصوليين ، وكلها بالإنجليزية ، أو الفرنسية ، أو الألمانية …
لا بد من كتيبة ـ والدكتور الطيب يصر على هذا الاسم ـ تتوزع على هذه اللغات ، وتنتشر فى الجامعات الأوروبية والأمريكية ، لينقلوا لنا بعد عودتهم ما تعلموه هناك ؛ لنعرفه ، ولنفيد منه ، ولننفذه أيضًا ـ إن أحتاج الأمر لذلك .
وهذا يُسلمنى ـ فيما يقول الدكتور الطيب ـ إلى النقطة الثالثة والأخيرة ؛ وهى : أنه منذ يومين تم نقلة تجربة الأزهر الناجحة مع المركز البريطانى إلى المركز الثقافى الفرنسى ، وتمنى الدكتور الطيب أن يتم ذلك مع المركز الألمانى والإسبانى , والمسلمون فى مختلف القارات يحتاجون لمن يحدثهم لغتهم من أبناء الأزهر ، وإذا لم يُسرع الأزهر فى سدَّ هذا الاحتاج فسوف يسدُه غيرنا وبمناهج وعلوم ومذاهب يعلمها السامعون .
هذا كله يحتاج إلى تأييد الزملاء الأفاضل ، عمداء الكليات الخمس ، وإلى النظر لهذ المشروع بما يناسبه من جدية واهتمام بالغ .
وثمة نقطة هامة يحرص الدكتور الطيب على البوح بها ؛ وهى : ضرورة أن يكون توجيه الطلاب المبعوثين من هذا المركز إلى الجامعات الأجنبية لدراسات جديدة وحقول غير متوفرة فى جامعاتنا هنا ، فنحن ننفق كثيرًا على هذا المشروع ، وليس من المعقول أن يعود إلينا بعض طلابنا وقد وجهوا لدراسات إسلامية ، سهلة ، ميسورة ، ومتاحة فى جامعة الأزهر ، فهذا تبديد للمال والمجهود ، وهذه الحقول الإسلامية يمكن إنجازُها هنا ، وبكل دقة علمية .
وأخيرًا يبدى الدكتور الطيب أنه يسرّه وهو يتابع مع التقدير الكبير للمركز البريطانى ولجهده الكبير ـ أن يلاحظ مقدار العناية التى يبذلها هذا المركز ، والفائدة الواضحة الجلية التى تعود على الطلاب ، وعلى الأزهر الشريف .