من تراب الطريق (1185)
من تراب الطريق (1185)
نشر بجريدة المال الأربعاء 22/9/2021
ـــ
بقلم : رجائى عطية
الإمام الطيب
والقول الطيب
دور الفتوى
فى انحسار التفقيه العبثى
ـــــ
فى هذه المحاضرة التى ألقاها الدكتور الطيب فى مؤتمر: « التكوين العلمى والتأهل الإفتائى لأئمة المساجد للأقليات المسلمة ( فى الخارج ) » فى أكتوبر 2016 , ينبه فضيلته إلى قضية بالغة الأهمية , تعبر عن المساحة الواسعة التى قطعها في سبيل تصحيح المفاهيم , والعودة إلى الإسلام الصحيح .
الناس تتعلق آمالها الكبرى بالفتوى وعلماء الإفتاء ودور الإفتاء , وأهم ما تتعلق به الآمال التخفيف من الانفصام الذى يتسع مداه , بين حياتهم المعاصرة وحاجاتهم الضرورية فيها , وبين مطاردة « التفقيه العبثى » الذى يلاحق أسماع الناس ليل نهار , لا ليدعوهم إلى يسر الشريعة والرحمة فى القرآن والسنة , وإنما ليذهب بهم إلى أخلاط من الآراء المتشددة , التى قيلت فى ظروف خاصة , وتحت ضغط عوامل طارئة .
وللأسف وجد هذا الفقه العبثى كتائب موازية من المفتين , الذين إرتفعت أصواتهم العالية فوق أصوات المؤسسات المتخصصة ومجامع الفقه والتشريع , وأولها مجمع البحوث الإسلامية فى الأزهر الشريف .
ويضرب الإمام الطيب مثلًا بمشكلة حية تتمثل فى « فوضى » تعدد الزوجات , وأيضًا فى « فوضى » الطلاق , وما يشجر عن هذه الفوضى المزدوجة من مآسٍ تدمر الأسر وحياة الأطفال !
ويتساءل الإمام الطيب , ويتساءل معه كل عاقل , ما الذى يجعل المسلم الفقير المعوز يتزوج بثانية , ويترك الأولى بأولادها وبناتها فى الفقر والإملاق والضياع , ولا يجد فى ذلك حرجًا يرده إلى القصد والصواب ؟!
وللأسف تتوالى الفتاوى على إباحة التعدد , بينما تسكت عن « الشرط » , وهو العدل بصريح نص القرآن الكريم , فضلًا عن التأكد من عدم لحوق ضرر بالزوجة الأولى . فكان أن ترسخ فى أذهان العامة أنه لا مسئولية شرعية تقف فى طريق رغباتها ونزواتها , ما دامت فى الحلال كما يتقولون !
ويضيف الإمام أن أحكام الفقه التى تعلموها أثناء الدراسة فى أول باب النكاح , أن الزواج ترد عليه الأحكام الخمسة , ومنها الكراهية أو الحرمة , فقد يكون الزواج مكروهًا شرعًا , وقد يكون محرمًا شرعًا , إذا تأكد الجور كما يقول الأحناف .
ومع أن الجميع متفق ــ فيما يورد ــ على وجوب الزواج عند خوف الوقوع فى الزنى , إلاًّ أنهم يشترطون معه عدم الخوف من وقوع الضرر ــ وقدم الأحناف الخوف من وقوع الضرر , على الخوف من الغواية , فعند ذلك يُحرّم الزواج الثانى . وقالوا فى تفسير هذا إن « الجور » معصية متعلقة بالعباد , والمنع من الزنى حق من حقوق الله تعالى , وحق العباد مقدم عند التعارض , لإحتياج العبد , واستغناء المولى عز وجل . وهذا موجود أيضًا فى فقه المالكية والشافعية .
ويرد الإمام الطيب على من يتعللون بحق الزوجة فى طلب الطلاق إذا وقع الضرر , فإن تعسف الزوج خالعته .
ولا يتفطن هؤلاء إلى أن هذا القول يجمع على الزوجة ضررين : ضرر الهجر , وضرر التضحية ــ فى الخلع ــ بكل حقوق , بل وأن ترد للزوج ما أنفقه من صداق .
إن الزواج حقوق وواجبات متبادلة قبل أن يكون نزوة أو رغبة عارضة , وأنه مسئولية كبرى عبر عنها القرآن الكريم بالميثاق الغليظ فى قوله تعالى : « وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا » (النساء 21) وأن الزواج لم يُشرَعْ أبدًا لمُكايَدةِ العشيرِ, وأن تشريعات الزواج إنما فرضت لمصلحة الأسرة والمجتمع معًا .
ويعقب فضيلته فى صراحة ووضوح , بأننا نعيش أزمة حقيقية يدفع المسلمون اليوم ثمنها غاليًا حيثما كانوا وأينما وُجدوا , نتيجة خوفنا , ونحن المنتسبين إلى العلم والعلماء , من التعامل مع الشريعة التى نصفها بأنها صالحة لكل زمان ومكان , لتقديم إجابات مناسبة للنوازل والواقعات المستجدة , وأيضًا نتيجة غياب الرؤية المقاصدية التى تشوش حتمًا على النظرة الاجتهادية , وتأخذ الفقيه بعيدًا عن الحادثة التى يبحث فيه محلها عن الحكم الشرعى المناسب : وأيضًا نتيجة الفتاوى المعلبة والمستوردة العابرة للدول والأقطار , التى لا ترعى أحوال المجتمعات , وتضرب باختلاف الأعراف والعادات والثقافات واللغات والأجناس عرض الحائط , حتى صارت الفتوى الواحدة يُفتى بها للمسلم مهما اختلفت الديار وتباعدت الأوطان وتبدلت الأحوال من حرب وسلام وغنى وفقر وعلم وجهل , وكيف يُعقل أو يُقبل أو يُفتى للمسلم بفتوى واحدة فى نوازل متشابهة من حيث الشكل ومختلفة من حيث الواقع واحتمال الضرر والمصلحة ــ فى القاهرة ونيامى مقديشو وجاكارتا ونيودلهى وموسكو وباريس وغيرها من الحواضر والبوادى فى الشرق والغرب ؟!