من تراب الطريق (1164)

من تراب الطريق (1164)

نشر بجريدة المال الثلاثاء 24/8/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

الوقت والهالك القومي!

تستطيع أن تعرف الفرد، وأن تعرف المجتمع، من مقدار احترامه أو إهماله أو تبديده للوقت، فالوقت يقف على رأس مجموعة القيم التي ترتد إليها كل أوجه النشاط والعمل والإنتاج.. فكل ناتج هو حصاد عمل مبذول خلال وقت.. وإهلاك الوقت هو تبديد للطاقات والقوى والثروة..

الطاقات المعطلة تبديد حقيقي للثروة الموجودة وللـثروة المأمولة، لذلك تجد شركات الطيران تحسب تشغيل أسطول طائـراتها بالساعة والدقيقة، ولا تترك طائرة واحدة في حالة توقف عن الطيران، فذلك محظور إلاَّ أن يكون ـ وفي ألزم الحدود ـ لأغراض التموين والتحميل، للركاب أو البضائع.. فساعات التوقف بدد وإهلاك، وحرمان من عائد التشغيل الذي هو قوام الطيران . ما يصدق على الطائرة، يصدق على كل آلة منتجة، ويصدق أكثر على الإنسان، فهو الأصل الذي تتجمع فيه كل القوى والطاقات والإبداعات، وإضاعة وقته هي إضاعة وتبديد لطاقته وقدراته وعطائه، وإهدار غير مرئي للياقته الروحية والنفسية والبدنية، وإعدام لإحساسه بقيمته وبقيمة ما يقدمه أو يمكن أن يقدمه، وإشاعة لكل سلبيات القعود والخبو والتعطل والبلادة، وهو ما ينعكس بالحتم والضرورة على مجمل الأداء العام في أى مرفق من المرافق .

في كثير من الدول الغربية تحدد مواعيد نظر كل قضية بالساعة التي ستنظر فيها القضية في اليوم المحدد لها، فلا يضيع وقت المحامين ولا وقت المتقاضين في الذهاب إلى المحكمة أو ما يقابلها والانتظار لساعات مبددة قبل النداء على القضية . وإلى الآن تستطيع أن تضبط ساعتك على مؤشر الساعة التاسعة في اللحظة التي يتم فيها افتتاح جلسات جميع دوائر محكمة النقض المصرية.. الجنائية والمدنية . وعلى مدى نيف وخمسين عاما في المحاماة لم أجد دائرة من دوائر محكمة النقض تتأخر ولو خمس دقائق عن ميقات الساعة التاسعة صباحا الذي اعتادت افتتاح جلسات كافة دوائرها فيه .

وكان النظام قريبا من هذا الالتزام بباقي المحاكم الجنائية والمدنية بطول مصر وعرضها، ولا زلت أذكر كيف كان بعض المستشارين رؤساء دوائر الجنايات يعتذرون للمحامين إذا تأخر افتتاح الجلسة دقائق ولو قليلة عن الموعد المحدد .

ومع مرور الزمن، استجدت مستجدات، وإن نجت منها مواقيت محكمة النقض، إلاّ أنها غيرت التقاليد المتبعة في باقي المحاكم المدنية والجنائية، فقد ازدحم رول القضايا ازدحاما هائلا يعوق القدرة البشرية للقضاة على الأداء وبذل الوقت اللازم والجهد المطلوب ـ لفهم كل قضية والنظر والبت فيها، ومع الازدحام ـ شأن جميع الازدحامات ـ تآكلت مع الوقت كثيرٌ من التقاليد، فلم تعد القاعات التي أعدتها الدولة لنظر القضايا مستخدمة في كل الوقت، هروبا من أنفاس المتزاحمين وشيوع الاختناق مع قلة التهوية في القاعات، وآثرت بعض الدوائر العمل في غرف المداولة حيث الظروف المناخية وغيرها أفسح وأسهل، ودون ما قصد متعمد جعل ذلك يأكل من تقاليد نظام ونظر القضايا بالجلسات، سواء بالنسبة للحضور والمثول، أو بالنسبة لمبدأ العلنية، وما يوفره هذا المبدأ الأصولي من ضمانات للمتقاضين ومحاميهم . ومع انتقال الجلسات من قاعاتها المهيأة المعدة لها، إلى غرف المداولة المغلقة أبوابها، بدأ نظام المواعيد يختل، وصار من الممكن أحيانا أن تنصرم ساعات هالكة بلا عمل بالنسبة للمنتظرين بدء المناداة على افتتاح الجلسة، أو المناداة على القضية التالية لقضية نظرت مضى على نظرها فترة ليست بالقليلة !

كتبت لك هذه السطور وأنا بقاعة جلسة إحدى محاكم الجنايات بالقاهرة، والقضية التي أحضر فيها هي أولى القضايا في الرول ـ أي قائمة ترتيب نظر القضايا، ولكن بعض المتهمين فيها مفرج عنهم وهؤلاء حضروا في الميعاد، أما المحابيس فقد تأخر السجن في إرسالهم كعادة السجون المزدحمة بالمساجين في الوقت الراهن . ترتب على ذلك أن نودى على القضية التي تليها، ثم التي بعدها، فلما حضر المتهمون في القضية التي أحضر فيها ـ لم تر المحكمة الموقرة أن تقطع الترتيب الذي بدأت بالفعل فيه، ومضت الساعات ساعة تلو الساعة، من التاسعة إلى العاشرة، ومن العاشرة إلى الحادية عشرة، ثم إلى الثانية عشرة، ثم إلى الساعة الواحدة ظهراً، فلما تجاوزت الساعة الثانية بعد الظهر وشعرت بالملل

ومهانة وقتي الذي يضيع هكذا بددًا بغير فائدة، أخرجت من حقيبتي أوراقا وطفقت أكتب هذه الكلمات .

لقد أبديت لبعض الدوائر أن نظام الحبس الاحتياطي قد جعل يأتي بعكس حكمته والمرجو منه، فالمفرج عنه هو الذي يصل لقاعة الجلسة في موعده، ولا يتأخر إلاَّ المحبوس الذي يتراخى السجن أو يتأخر في إرساله، وزدت على ذلك أنه لو عاقبت المحكمة مسئول السجن المتسبب في تأخير إرسال المساجين، لانصلح الحال وتوقفت هذه التجاوزات التي تذهب بأوقات العشرات بددا بغير قيمة !!

وزاد الطين بلة الاحتياطات الصحيحة أو المغالى فيها، من جائحة الكورونا، فصار الأداء عذابًا فوق الاحتمال !

لقد نيفت الآن على الثمانين، وكنت أؤدى من ستين عامًا في ظروف أفضل كثيرا من الظروف التي صرت أؤدى فيها الآن، ولم يعد في طاقة عمري احتمالها، فهل يمكن إعادة النظر فيما صرنا إليه لنعود إلى ما كنا عليه ؟!

زر الذهاب إلى الأعلى