من تراب الطريق (1161)
من تراب الطريق (1161)
نشر بجريدة المال الخميس 19/8/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
الاختلاف: هل مصباح رؤية أم مدعاة عداوة ؟! (2)
أما الموافقة، فهي عادة أقل إيجابية من المخالفة، وأقل احتياجاً إلى الدفاع والتبرير، وأقل تعرضا لحدة النقد واللوم، ولا تحتاج في الغالب إلى بذل مجهود غير عادى، وقد تتم بالإيماءة، وأحيانا بالسكوت وعدم الاعتراض. ولذلك فالموافقة تبدو أسلم عاقبة من المخالفة، وأرخص ثمناً وتكلفةً، وأقرب لباذلها نفعًا. سيما حين يكثر الموافقون، ولا تتطلب الموافقة مجهوداً أو دليلًا على الإخلاص. وهذا قد أدى إلى وصف رأى الكثرة بأنه موافقة، وأدى إلى وصف الرأي الآخر ـ بأنه معارضة أي مخالفة. هذا وقد يتغير رأى الكثرة إلى غيره أو إلى نقيضه، ومع ذلك يظل موصوفًا بأنه موافقة، بينما يوصف رأيهم الأول بأنه معارضة أو مخالفة ممن يتمسكون به. هذا لأن الموافقة والمعارضة اصطلاح جرى عليه الناس، وقلما تأتى موافقة الكثرة على جديد إلاَّ متأخرة عن أوانها، مصحوبة بقيود وتحفظات من أجل القديم الذي يصعب على الكثرة العدول عنه أو غسل أيديها منه، ذلك لأن العاديين من الناس محافظون بطبعهم، ينفرون من التغيير، ويميلون إلى استدامة ما ألفوه ودرجوا عليه ـ ما وسعهم ذلك ما دام بلا مشكلة غير عادية تضرهم أو تؤرقهم !
وإلى جانب المخالفة والموافقة على هذا المعنى، توجد أنماط وأطوار في حياة الخاصة والمترفين، وهذه لا تثبت على حال في ظاهرها ومشهودها. فظاهرها ومشهودها لا يثبتان لأن أولئك يلتمسون فيها المغايرة والتبديل والتفضيل حيثما يعثرون عليها، ولو لدى الأجانب في البلدان الأخرى. ثم هم لا يمكن في الغالب أن يوفقوا فيها ـ في هذه المغايرات ـ إلى شىءٍ جدى مما ينفع حياة الناس أو يطورها إلى الأفضل. مرد ذلك أن معظم هذه المغايرات يُؤثَر فيها الانفراد والتفرد والنفور أو الفرار من المحاكاة والمشاركة ـ تأكيداً للذات ـ ما كان إلى ذلك سبيل !
أما واقع المشتغلين في المجتمع بالعلوم والمعارف الموضوعية الصرف، البعيدة أصلا وفرعاً عن العقائد والعواطف، الذين كان يتوقع منهم بذل المجهود والغيرة على وحدة العقل والنفس لدى الآدمي، فإن واقعهم لا يختلف إطلاقا عن واقع السواد الأعظم من الخلق في التعلق بالمعتقدات السائدة والالتزام بها بقدر ما سمحت لهم به ظروفهم، ويبدو أنهم ارتضوا حياة الانقسام العقلي والنفسى، وانفصال العقل الموضوعي الذي يحتكمون إليه ويتبعون أصوله وفروعه في أشغالهم ـ انفصاله عن العقل العادي الاعتقادي العاطفي الذي يعيش به وعليه عامة الناس، ويبدو أنهم قبلوا هذا العقل كما قبله الآخرون، وأمكنهم تجاهل التناقض القائم حاليا بين العقلين والتصورين والفهمين، ولم يعد هذا القبول مستنفرا لديهم بتاتاً، ولا يفكرون قط في علاجه لاستعادة وحدة العقل النفسى. فهم ينحازون ويصفقون ويغضبون ويبغضون كما تفعل العامة تماما لنفس الأسباب والموضوعات، وبنفس الأسلوب والطريقة، كأنهم لا يعرفون ولا يحرزون علوم ومعارف العلم الوضعى، ولا يشتغلون بتعليمها أو تطبيقها!!
وكثيرا ما نرى بعضهم يحاول أن يطوع معطيات العلم الوضعي لتوكيد المصدقات والاعتقادات في قلوب وأذهان الخلق وفي قلوبهم وأذهانهم هم معهم.
يبدو في طينة الآدمي أنه لا يتحكم في النهاية إلاّ طبيعة هذه الطينة، وأن ضياء العقل جاء عارضا وسيظل عارضا مهما سَطَع ورَأَى وفهم ووضح وأنار، وأن بصيرة البشر بصفة عامة، وبالنظر إلى غالبيتهم، لها حد غليظ كثيف، تقف عنده حينا، وترفض ما زاد عن النور، لأنه لا عمل له ولا فائدة منه، ولا يمكن أن يمتزج بطبيعتها أو يغير أساسها أو خامتها !
وربما ساعد ذلك على أن نفهم معنى « حيوانية » أجسادنا التي لا تكاد تفترق في أساسياتها وتفاصيلها عن أجساد القردة وغيرها من الثدييات. أيًا كان تطور الآدمي، وبالغًا ما بلغ هذا التطور، فإنه لا يحجب هذه الحقيقة حجبًا تامًا نهائيا ينسيها أو يزيلها ويلغيها !!
ظني أن الاختلاف أرجح ما يكون مصباح رؤية لمن يفهمون ويتفاهمون !