من أهرامات المحاماة مكرم عبيد الهرم الأكبر (3 ــــ 3)
من أهرامات المحاماة مكرم عبيد الهرم الأكبر (3 ــــ 3)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 29/3/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يعرف الذين ضربوا بسهم وافر في المحاماة، أن وسيلتها للإقناع، وهو مهجتها وغايتها، تنبع ــ شفاهة وكتابة ــ من شحنة مجدولة من العلم والمعرفة، ومن البيان وامتلاك اللغة، ومن القدرة على الاستنباط والاستشهاد، ومن اتساع العقل والفكر إلى براعة الاستدلال بالحجة والبرهان، وامتلاك الأسماع والتأثير، في غير ملالة ولا تنفير، وهذا تتلاقى فيه الموهبة مع فن الإلقاء مع حضور البديهة، لذلك كانت المحاماة الحقة موهبة ملهمة، وشعلة نابهة متوقدة متيقظة، تحسن خوض الصعب، وتسعى لتحقيق الغاية مهما بذلت في سبيلها ما دامت تستهدف الحق والعدل والإنصاف.
ولا مراء في أن المحامين يتفاوتون، كما يتفاوت الناس، فيما يملكونه أو يفتقدونه من هذه المكنات، ومن المؤكد أن الأستاذ مكرم عبيد، أيقونة المحاماة وهرمها الكبير، قد امتلك أوفي نصيب من هذه القدرات.
فمن المعلوم أنه درس في أكسفورد فأتقن الإنجليزية إلى جوار درجة الامتياز في القانون سنة 1908، ثم واصل دراسته القانونية في ليون بفرنسا حيث حصل عام 1912 على ما يعادل الدكتوراة، وإلى جوارها إتقان الفرنسية، ففتحت اللغتان الأجنبيتان عوالم أمامه للنهل منها، ولكنه لم يهمل لغته العربية، وكان من ذلك حرصه ــ بلا أي تعصب ديني ــ على ترتيل وحفظ آياتٍ من القرآن ببلاغته وروعة بيانه، واستمر في تنمية لغته العربية وهو في المنفي، فكان عاطف بركات أستاذه فيها هناك، اتسعت بلغاته دائرة اطلاعه ومعارفه، وتدهش حين تعرف أنه كان مفطورًا على حب الفن والموسيقى، حتى لتراه والموسيقار محمد عبد الوهاب صديقين لا يفترقان إلاَّ ليلتقيا، فيروى عنه عبد الوهاب أنه كان فنانًا حتى أطراف أصابعه. في كافة مجالات التذوق الفني، وفي تعامله مع الأشياء، ولكن الموسيقى والغناء كانا غرامه، فهو مستمع نادر للموسيقى الشرقية والغربية، شهد له عبد الوهاب بأنه خبير بهما، وأنه صاحب صوت رخيم يميزه كل من سمعوه حين يسمعون هذا الصوت يخطب في الجماهير، ويضيف عبد الوهاب أنك كنت تسمع صوته الحقيقي وهو « يدندن » لحنًا شرقيًا قديمًا، وحين يرتل القرآن ترتيلاً، وقد ذكرني حديث عبد الوهاب، بالعود الذي وجدته في خمسينيات القرن الماضي في متروكات أبى، فسألته مندهشًا فأجابني موضحًا أن درس الموسيقى وطبقات الأصوات بالغ الأهمية في المرافعات وفي الخطب بوجه عام، وأنه لذلك تعلم على العود في شبابه، ودرس الطبقات الصوتية مع الشيخ جوده الذي كان يرتل القرآن في مكتبه وفي بيتنا يوميًا، ودلني رحمه الله ــ وكان من الجيل الذهبي في المحاماة ــ على أسفار الأغاني للأصفهاني، والبيان والتبيين للجاحظ، ولم يكن كتاب « فن الإلقاء » قد صدر بعد للأستاذ عبد الوارث عسر.
كان مكرم باشا ساحرًا في مرافعاته، وقمةً في البيان والبلاغة، وقوة الحجة والبرهان، وصفه من سمعوه بأنه كان « قيثارة » تشجى الآذان وتهز الوجدان والقلوب، وتتسرب إلى العقول.
للمحامين على مدار تاريخ المحامـاة، مواقف مبهـرة، منهـا ما حفظته المدونات، ومنها ما عاش في ذاكرة المحامين، يتناقلونه بالرواية جيلا بعد جيل.. صادف المرحوم الأستاذ مكرم عبيد ـــ صادفه فيما تتناقله الروايات ـ موقف بالغ الصعوبة إزاء مدعية ادعت على موكله أنه اعتدى عليها، واغتصبها كرها، ومحاذير السقوط في وهدة القذف شديدة وخطيرة إذا انفلت الدفاع إلى إبداء أن المواقعة كانت بكامل إرادتها ورضاها، فإطلاق ذلك سوف يعوزه الدليل، ولم تكـن الواقعة إلاّ بين اثنين لا ثالث لهما، المدعية التي انتصرت النيابة لقولها، وحجتها غالبة حسب المجرى العادي للأمور، لأن بنت حواء لن تنزلق إلى مثل ذلك مع ما يصاحبه من مساس بسمعتهـا، إزاء المتهـم الذى لم تسمع النيابة لدفاعه، ولم تصدقه، وأخذته بقول المدعية، وقدمته إلى محكمة الجنايات بهذه التهمة الخطيرة التي يمكن أن تصل عقوبتها إلى الأشغال الشاقة المؤبدة !!.. ماذا يفعل فارس المحامـاة مكرم عبيد إزاء هذا الخطر الداهم، ومحاذير السقوط في هاوية جريمة القذف إن بنى دفاعه بغير دليل على « رضاء » المدعية ؟!! هنا تجلت ألمعية وفراسة وبديهة المحامي الفذ.. ففاجأ المدعية ومعها هيئة المحكمة بطلب غريب استهل به حديثه هو مطالبة المدعية بتعويض ما أتلفته من الفراش بصعودها إليه محتذية حذاءها، ومع وقع المفاجأة انفلت لسان المدعية بالحقيقة، فتعجلت قائلة ـــ دون أن تتنبه ـــ إنها خلعت حذاءها قبل أن تصعد إلى الفراش !!
كانت سقطة المدعية مدوية، وأثرها مفجرا فاضحا لزيف وكذب ادعائها !!؟؟ كان يسيرا على الأديب المفوه مكرم عبيد أن ينهي مرافعته بالقرآن، وكان على مسيحيته من الحافظين له كثيري الاستشهاد بآياته.. طفق مكرم عبيد يروى للمحكمة قصة امـرأة العزيز مع يوسف الصديق، حين اتهمته كذبا بأنه أراد بها سوءا، وقالت لزوجها العزيز إنه راودها عن نفسها، وإذا بشاهد من أهلها ينصح العزيز باللجوء إلى الدليل الفني، فيما رواه القرآن المجيد: «وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ » ( يوسف 25 ـ 29 ).. ومع الجلال الذي شمل الموقف، والانبهار بذكاء وحيلة مكرم عبيد التي أنطقت المدعية بالحقيقة، صدر حكم البراءة الذي كان في الواقع ثمرة لعظمة هذا المحامي الفذ !