من أهرامات المحاماة مكرم عبيد الهرم الأكبر (2)
من أهرامات المحاماة مكرم عبيد الهرم الأكبر (2)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 22/3/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
كان الأستاذ مكرم عبيد ــ رحمه الله ــ نقيبًا في المحاماة وأستاذيتها، ونقيبًا أيضًا لنقابتها.. نقابته للمحاماة لم يدفعها أو ينكرها عليه أحد، كذلك هو النقيب العاشر في سلسلة النقباء.. انتُخب نقيبًا للمحامين في 15/12/1933، وحتى 25/12/1936، ثم إنه بنى بابنة النقيب الخامس، الأستاذ الكبير مرقص حنا الذي وُلِى نقابة المحامين مرتين، الأولى من 12/12/1919، والثانية من 18/12/1925، وإذا كان مكرم عبيد قد حاز لقبي (ابن سعد) و(المجاهد الكبير) فإن الأستاذ مرقص كان زميلاً لسعد، ومجاهدًا كبيرًا معه أيضًا.. فقد كان عضوًا أساسيًّا في لجنة الوفد المركزية، ورفيقًا لسعد زغلول ورفاقه في منفاهم في سيشيل، واعتُقل لاحقًا مع حمد الباسل وويصا واصف وواصف بطرس غالى، وقُدم مع ستة آخرين إلى محكمة عسكرية بتهمة طبع منشورات تحض على كراهية واحتقار الحكومة، وقضت المحكمة العسكرية بإعدام السبعة، ثم خُفف الحكم إلى سبع سنوات وغرامة خمسة آلاف جنيه، وخرج من السجن إلى الوزارة، ليكون وزيرًا مع سعد في أول وزارة دستورية تحكم البلاد .
ومما عُرف به الأستاذ مكرم عبيد، أنه كان في مرافعاته، وفي خطبه، كثيرًا ما يصك عبارات، تصير ببلاغتها ومعانيها من الأوابد والأمثال التي تتردد على الألسنة والأقلام، ولا تزال أجيال إلى الآن تستشهد بمكرميات مكرم عبيد وتشدو بقطع من مرافعاته البليغة .
في مرافعته عن حسن نحاس ( وليس مصطفي نحاس )، أجرى مقارنة لافتة أخَّاذة، بين العدالة والسياسة، فطفق يقول في مرافعته للمحكمة : « إن العدالة والسياسة ضدان لا يجتمعان، وإذا اجتمعا لا يتمازجان . العدالة من روح الله، والسياسة من صنع الناس ! والسياسة توازن والعدالة تزن بالقسطاس، وكذلك يختلف الغرض منهما : فالعدالة تطلب حقًّا والسياسة تبغى مصلحة ! » .
وكثيرًا ما كنا ـ ولازلنا ـ نتناقل مثل هذه « المكرميات » التي اشتهر بها الأستاذ مكرم عبيد، والواقع أنه من الصعب الإحاطة بومضات مكرم عبيد في عالم المحاماة، وأيضًا في عوالم الاجتماع والحكم والسياسة . فقد كان شخصية موسوعية، ولعل هذه الموسوعية هي الرافد الأساسي في براعته منقطعة النظير في المرافعات التي تغلب وتتميز فيها البديهة الحاضرة، وكانت بديهته حاضرة على الدوام، يغذيها ولا شك اتساع ثقافته وتنوع معارفه التي ضرب فيها في كثير من المجالات . نرى ذلك واضحًا في شخصيته، وفيما تُنوقل حوله من روايات .
يعرف العجائز أمثالنا أن المرحوم احمد قاسم جوده، كان قد جمع كثيرًا من المكرميات في كتاب صدر في أربعينيات القرن الماضى ضم كثيرًا من خطبه، ومحاضراته، ومرافعاته، وكثيرًا من حِكمه وأوابده وأمثاله، وقيض لهذه المكرميات التي نفدت طبعاتها من زمن طال، أن تعنى بها ابنة شقيقه الأستاذة الدكتورة منى مكرم عبيد، فجمعتها وزادت عليها، وعنيت أكثر بتبويبها، وضمت إليها بعض ما كتبه بعض الأعلام والمفكرين والكتاب عن هذه الشخصية الأسطورية، وأصدرتها ـ كتابًا ضافيًّا عام 2015 بعنوان « مكرم عبيد كلمات ومواقف »، ملأ فراغًا كان ينشده الكثيرون لمزيد من معرفة هذا المصري الأصيل، والمجاهد الكبير .
كان مفاجأة لكثيرين الذين توقفوا عند المقالات العنيفة التي تُبودلت بين مكرم والعقاد إثر خروج العقاد من الوفد في ثلاثينيات القرن الماضي، ومهاجمته للنحاس، فانبرى له مكرم عبيد الرجل الثاني في الوفد، لتدور بينهما سلسلة من المقالات العنيفة، ولذلك فوجئ من توقفوا عند هذه الخصومة، حين رأوا عباس العقاد على رأس جريدة الكتلة الوفدية التي أصدرها مكرم عبيد في منتصف أربعينات القرن الماضي بعد خروجه من الوفد، ويقرأون فيها بقلم عباس العقاد
« افتتاحية » الكتلة في 1/11/1944: « تحية لمكرم عبيد واقتراح بأن يسعى لطرد الظلم في كل مكان »، ثم يرون العقاد على رأس كتَّاب الكتلة، فيكتب فيها في 6/11/1944 : « أمين عثمان باشا هو رأس العصابة »، ثم في 9/11/1944 : « ظاهرة نفسية ــ عن الفضائح النحاسية »، ولتتابع كتابات العقاد متلاحقة في جريدة الكتلة.. التي صار كاتبها الأول.
على أن هذا الصلح لم يكن غريبًا عن مكرم ولا عن العقاد، على عكس ما قد يبدو في ظاهر كل منهما.. فقد شوهد الأستاذ مكرم يدخل باكيًا بشدة في أحضان مصطفي النحاس حين التقيا بعد سنوات من الخصومة التي احتدمت بينهما، وكذلك كان الكاتب الجبار عباس العقاد الذي كادت دموعه تنهمر وعواطفه تفيض لبكاء طفل أو تضعضع ضعيف !
جمعت الدكتورة منى مكرم عبيد في كتابها الضافي « مكرم عبيد : كلمات ومواقف » باقة من مقالات كبار الكتاب والمفكرين عن الأستاذ مكرم، إلى جوار العقاد : خالد محمد خالد، وأحمد بهاء الدين، وإبراهيم فرج، وسعد الدين إبراهيم، وفؤاد سراج الدين، والموسيقار محمد عبد الوهاب، والدكتور مصطفي الفقي الذي كان مكرم عبيد موضوع رسالته للدكتوراه، والدكتور المؤرخ يونان لبيب رزق، والأديب الكبير الأستاذ حفني محمود، وربما عدت لاحقًا إلى تناول ما كتبوه .
بدا لي وأنا موزَّع بين المجالات العديدة، المتنوعة والواسعة، التي طرقها مكرم عبيد، بحيث يستحيل تغطيتها إلاَّ في كتاب واسع عنه، بدا لي أنه لا مناص من أختار جانبًا أركز فيه، وهو الروافد التي صبت لدى مكرم عبيد في نهر المحاماة، فالمحاماة في كلمة « إقناع »، والإقناع محصلة التلامس والترابط والتساند بين المعارف بكل صنوفها، وبين القانون، وتوسد هذه وتلك بيانًا قوامُه امتلاك اللغة ـ فصحى وعامية ـ والإلمام بدروبها، مع فنون الإلغاء الذي تتلاقى فيه الموهبة مع الدراسة والدربة والمران .
وقد كان مكرم عبيد، هرم أهرامات المحاماة، بارعًا متميزًا في هذا كله، يزول عجبك حين تراجع روافد تكوين هذه الشخصية الفذة، وروافد معارفها وخبراتها . وهذا في ظني هو بيت القصيد لمن يريد أن يتعرف على مكرم عبيد في رحاب المحاماة التي صار عَلمًا من أكبر أعلامها في تاريخها كله .