من أهرامات المحاماة عبد العزيز فهمي صاحب القمم المتعددة (10)
من أهرامات المحاماة عبد العزيز فهمي صاحب القمم المتعددة (10)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 14/6/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
الواقع أنه لا يُشبع من الحديث عن عبد العزيز باشا فهمي، فهو عظيم فذ في حياتنا الوطنية والفكرية والقانونية والأدبية.. لا تملك إزاء صفائه ونقائه وإخلاصه وقيمه وتجرده ـ إلاّ أن تحبه ويملك عليك كل أمرك ـ ولا أخفي تطلعي أن تكون هذه الأهرامات قدوة تقتدى بها أجيال المحامين، لنتواصل ونلتحم مع الماضي العظيم الذي كان.
ليس في وسعى، أن أنقل إليك المبادئ العظيمة التي أرساها، وهو أول رئيس لمحكمة النقض، فهي أكبر كثيرًا من أن يتسع لها هذا المقام، وحسبي أن أحدثك عن بعض الآثار الأخرى التي تركها هذا الهرم السامق، وفي مقدمتها نهضته باللغة العربية في المحررات القضائية.
إن اللغة التي بين أيدينا الآن، ليست اللغة التي كانت بأيدي وتناول وتداول أسلافنا من قرن من الزمان !.. نعم هي هي اللغة العربية، ولكن اللغة مفردات وتراكيب، وكلاهما خاضع لسُنّة الحياة التي لا تبقى شيئًا على حاله.. اللغات بعامة في حالة تطور دائم، تستجد فيها مفردات وتتوارى أو تتباعد أخرى، وتستجد فيها تراكيب وتهجر في الاستعمال تراكيب أخرى..
وليس المحامي أو غيره من أرباب الكلمة بمستطيع أن يعي لغته وعيًا متفطنًا، ولا أن يستخدمها استخدامًا صحيحًا مؤثرًا، ما لم يلتفت إلى هذا ويدرك أسرار اللغة وتاريخها وتطورها وصيغ أساليبها ومواطن الجمال فيها.. من عظمة أسلافنا من الجيل الذهبي أنهم كانوا بنائين عَبَّدوا طريقًا بالغ القفر والجفاف.. حينما شقوا طريقهم كانت العربية مهجورة مهيضة في بلدهـا، وكانت الغلبة للتركية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية !! وتوارت العربية في بلدها بين ناسها، حتى عدا الكرد والشركس والأرناءوط وأسرى إبراهيم باشا من بلاد « المورة » و« كريت » و« الأناضول » ـ على أهل البلاد، فصاروا حكامًا يترفعون على أهل مصر وعلى لغتها، فتراجعت اللغة العربية في المرافعات والأحكام، ومن يرجع إلى سجلات وأحكام المحاكم في ذلك الزمان يجد العجب العجاب في تردى لغة الأحكام ومصطلحاتها وسيادة التركية التي كانت لغة البلاد الرسمية، وتشويه النقل إلى اللغة العربية، مع تواضع وضعف وركاكة كتابة المذكرات والأحكام !
وترجع بداية نهضة اللغة العربية في المحررات القضائية، إلى باقة رائعة من البنائين العظام، في مقدمتهم ولا شك عبد العزيز باشا فهمي، الأديب الشاعر، والقانوني الضليع، عَلَم المحاماة، وأول رئيس لمحكمة النقض لم يتخلف عن جلسة من جلساتها، ولا تزال صياغته للأحكام درة في اللغة، إلى جانب ما أرساه فيها من مبادئ.
كان النقل إلى العربية، نقلاً ركيكًا متأثرًا بأفول اللغة كتابةً واستعمالاً، وامتلاء الساحة بهؤلاء الأجانب وأسمائهم ولغاتهم.. ومن يراجع أوراق المحاكم في ذلك الزمان يجد « الموره لى » ـ و« الكريتلى ». و« القونية لى ».. والسلحدار، والمهردار، والدقتدار، وكخيا، وكتخدا… إلخ. وساعد على سيادة الأجانب ولغاتهم وغياب العربية، تفشى الأميّة تفشيًا مريعًا، وأن أكثر من 99% من الأهالى كانوا لا يقرأون ولا يكتبون، وغلبة الحكام الأجانب على المصريين، فكان أن أصابت الركاكة اللغة العربية حتى بلسان أبنائها والناقلين إليها.. كان المتداول في المرافعات والمذكرات والأحكام ألفاظًا وعبارات مثل: ينجمل ـ موكلينى ـ منمدة ثلاثة شهور ـ عنهذه المادة ـ والآن رغبت انفصالى منه واستولاى على ما تركه والدى من تاريخ وفات ـ في ماه جا سنه 1268 ـ وردة إفادتها ـ وعبارات لا علاقة لها بالعربية لفظًا أو أكثر نحوًا وصرفًا !!
أدرك أسلافنا البناءون العظام أن قضية اللغة قضية القضايا، وأن استرداد العربية مكانتها الواجبة في وطنها وبساحات المحاكم تدوينًا ومرافعةً وأحكامًا، يستوجب جهودًا كبيرة، فاهمة وواعية ومتفطنة، ومدركة في الوقت نفسه مطالب الأداء القانونى وما يستوجبه من ضبط وتحديد المعانـي تحاشيًا للميوعـة والهلامية التي تضيع معهـا المعاني أو تشيع بين تفسيرات متعددة يكرهها القانون وتأباها العدالة !
حين تدرك هذا النظر بعين الفهم، يزداد عرفانك وتقديرك لما اهتم به أسلافنا العظام، وفي مقدمتهم عبد العزيز فهمي. كان ذلك في ثلاثينيات القرن الماضي، وكانت اللغة العربية قد جاوزت الأفول الطويل، وتعدت الركاكة والضعف، واغتنت استعمالات الألفاظ والتراكيب، وحلت الصياغة الأدبية في الكتابة وفي المشافهة محل ما كان من ضعف ووهـن، وبدأت الأنظار تلتفت إلى عيوب مذهب البديع وسلبيات الإفراط فيه على ضبط المعانـي والألفاظ.. ومـع ذلك لـم يهمـل هؤلاء الأسلاف الكبار أن لغة الأحكام والمرافعات لا تزال تحتاج إلى التفات خاص وإلى عناية خاصة، ليس حسبها أن تعطى الساري أو الجاري، وإنما طموحها أن تواكب المستحدثات والمستجدات وأن تكون متهيأة لما يأتي به المستقبل، قادرة على الأداء والتعبير طبقًا لمعطياته ولوازمه !
أدرك هؤلاء البناءون العظام أن الإلمام العام باللغة العربية بيانًا وبلاغةً ونحوًا وصرفًا ـ لا يغنى الكاتب أو المترافع في محراب العدالة عن قواعد وقيود تلزمه ليتحقق في مرافعته أصل البلاغة: « موافقة الكلام لمقتضى الحال ».. هذه الموافقة تقتضى إدراك متاعب اللغة التي تستوجب ملاحقة الجديد في المعاني والمستحدثات وفروع العلوم التي شملتها وتشملها النهضة بما استدعى ويستدعى الإلمام بالجديد لتستبقى اللغة قدرتها على التعبير. ومن هذه الموافقة لمقتضى الحال الالتفات إلى عدم تجاوز القصد بالوقوع في الاستطرادات والسجع والإرداف ـ كمن إذا قال الظلم ألحق به الاستبداد، أو إذا تكلم عن الرحمة أردفها بالإشفاق.. ثروة اللغة بالمترادفات ـ وهذا شأن العربية ـ يغرى بهذا الاستطراد والسجع، وهو داء يجب على الأدب بعامة أن يتخلص منه وأن يدرك أهمية نحت اللفظ وصياغة العبارة على قدر المعنى المراد.. أن يدرك الفـروق الدقيقـة بيـن معانـى الألفـاظ مثـل الفارق بين « الإقدام » أو « الشجاعة » أو « الجرأة » أو « الهمة »، وأن يعرف أن صياغة القانون وفروعه من مؤلفات وبحوث وأحكام ومذكرات ومرافعات تستوجب الدقة والضبط والتحديد.. المعاني المترهلة قد تفوت في لغة الخطاب العادية أو الأدبية، ولكنها لا تسعف في صياغة الفقه والقانون والمرافعة. ومن متطلبات الموافقة ـ لبلاغة المرافعة ـ البعد عن التـكرار وعن الإملال وعن اللجوء إلى المأثورات التي ماعت وأملت من كثرة ترديدها فيما يحسن وما لا يحسن حتى ملت الأسماع من سماعها من كثرة ترديدها وفقدت القدرة على التأثير المرجو منها ! وقد كان عبد العزيز باشا فهمي زعيمًا لهذه المدرسة الجديدة، في الأدب، وفي صياغة الأحكام، وفي المحاماة.