من أهرامات المحاماة عبد العزيز فهمي صاحب القمم المتعددة (4)

من أهرامات المحاماة عبد العزيز فهمي صاحب القمم المتعددة (4)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 3/5/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

إذن لم يكن حديث عبد العزيز باشا فهمي في حفل إنشاء محكمة النقض ـ مجرد كلمات طلية لزوم الاحتفال والمجاملات، وإنما كان تعبيرًا صادقًا عن حالة حقيقية نجح بها هؤلاء الأسلاف العظام في الخروج من « زقاق » « الانحياز » الفئوي إلى باحة الرؤية الشاملة التي تدرك أن رسالة العدالة جديرة بأن تؤلف بين الساعين في محرابها وأن تجمعهم ـ مهما اختلفت مواقفهم وأطروحاتهم ـ على غاية واحدة، وأن لا يخل اختلاف المواقع أو الأدوار بإحساس الجميع بأنهم ينتمون إلى أسرة واحدة وتجمعهم ـ رغم اختلاف الرؤى ـ غاية واحدة.. فنرى في مجلدي الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية ـ كيف أن رجال القضاء ورجال المحاماة قد انصرفـوا جميعـًا إلى همهـم في خدمة العدالة بلا تحوصل أو تمحور أو انحياز، ونعجب لهـم وبهم وهم يتبادلون المواقع بلا حساسية، فيتحدث قاضى القضاة والقضاة عن المحاماة والمحامين، ويتحدث المحامون عن القضاء والقضاة والمحاكم الأهلية والحسبية.

ومع أن الكتاب الضافي هو للمحاكم الأهلية وعنها، بما يغرى بأن يقتصر التناول والحديث فيه على المحاكم والقضاء والقضاة، إلاّ أننا نرى أن الكتاب الذهبي يفسح المجال ـ راغبًا مرحبًا بالمحاماة وقضاياها وبنائها وسبلهـا.. يكتب الأستاذ زكى عريبي المحامي عن لغة المرافعـات، ويفسـح الكتاب للمحامي النابغة أحمــد رشـدي ليتحـدث عـن « المحاماة كما يعرفها ».. فيورد ـ فيما يورد ـ عن دراسـة المحامي وثقافته الواجبة « إن من التزيد في الكلام أن يقال إن على المحامي أن يتفقه في القوانين فهما واستذكارًا، فما ينبغي أن يكون المحامي شيئًا إذا لم يكن كذلك. أما أن يصبح محاميًا حقًّا فذلك يوم لا يفوته النصيب المسعف من كل علم بينه وبين عمله صلة تكاد لا تنقطع. إنه لا محيص له من أن يصيب حظًّا وافرًا من الفقه الشرعي والتاريخ والمنطق وعلم الاجتماع وعلم النفس وآداب البحث والمناظرة، إلى حظ مؤات من مبادئ العلوم الطبية والميكانيكية، وليس ذلك بعجيب ولا هو بمستكثر.. إن ضرورة العمل وحسن أدائه أصبحا يقتضيان من المحامي أن يختزن في وعاء قلبه من المعارف ما لا يتأدى التوفيق في المرافعة وبحث القضايا إلاَّ به. أليس مما يشين المحامي أن يكون لقضيته اتصال بفن من الفنون، وأن تنضاف إلى أسانيدها تقارير خبراء فنيين ثم يقف هنالك زائغ البصر عاجـزًا عـن تفلية هذه التقارير ليميط ما فيهـا من باطل أو ليقيم ما بها من حق ؟! ».. ثم في سلاسة حانية، وبصيرة نافذة، يوصى المحامين بوصاياه النفيسة وبفنون المرافعة من حصاد تجربته الطويلة المتميزة.

ومن اللافت أن هؤلاء الأسلاف قد بنوا هذا البناء قبل أن يدين لهم ما دان لنا اليوم من المعارف والعلوم والثقافة مما كان محل سعى وطلب ومجاهـدة للتحصيل في زمن هؤلاء الأسلاف الذين وضعوا الأساس، فلم يكـن في قبضتهم ومتناولهم ما صار سهل المنال ميسور التحصيل في مصادر عديدة تزايدت في زماننا مبوبة ومفهرسة في المجموعات والمراجـع وشبكات الإنترنت.. وتراكمت إلى جوار المعارف ـ التقاليد التي صارت دستورًا مكتوبا وغير مكتوب، ومع ذلك فإن جعبة اليوم خلت من كثير مما ضربه الأسلاف من أمثال وخطوه وحفروه من قيم وتقاليد ومبادئ.. كانت جعبة الماضي في هـذا الجانب أكثر ثـراءً وبعـدًا عـن الكبوات.. وربما كان مرجع هذا إلى موجـة الإنشـاء والتأسيس وما يصاحب هذا عادة من همم ماضيه وجد أخلص تستلزمه الآمال الكبار في البناء !! وهذا قريب من دورات الحضارات التي تصاحبها إيجابيات في مرحلة البناء والتكوين والاندفـاع، ثم سرعـان ما يصيبها التراخي ثم الوهن والتحلل والتفكك بما يصاحبه من ميل كل فئة إلى « التمحور » الذي يسلس ـ وربما باللا وعى ـ إلى الانحيازات الفئوية التي تعطل في الواقع رسالة العدالة، وتحل سلبيات ناحرة محل إيجابيات ثرية معطاءة كان حريا بالحاضر أن يضيف إليها لا أن ينحر منها !!

والذي يعرفه من عركوا المحاماة، أن الكلمة ـ منطوقة أو مكتوبة ـ هي عدتها وهي جسر المحامي إلى القاضي أو القضاة في محراب العدالة، وكونها كلمة يستوجب أن يكون لها معنى، وأن توظف في عبارة تحمل وتعطى مضمونا، وأن تأتى في سياق يجعل لها غاية.. أما كونها منطوقة ـ فإنه يستوجب أن يكون لها معمار، وأن تكون لها موسيقيتها الذاتية وموسيقاها في سياق عبارتها المتجاوبة مع المعنى الذي تنشد بيانه وجلاءه.. قد قيض لي أن أنتبه إلى منابع هذا كله قبل أن تتاح لي فرصة الاطلاع والدراسة.. كان أبى رحمه الله محاميًا من الجيل الذهبي، وعيت من الطفولة اهتمامه بالقرآن الكريم، يرتله ويختمه في كل رمضان خمس أو ست مرات، ويرتب مقرئًا يتلو شيئًا منه كل صباح في المكتب وفي السكن حتى صـار فردًا من الأسرة.. على أن الذي أدهشني، أنني عثرت في غرفة المتروكات بالمكتب على « عود » قديم علاه التراب، فأبيت إلاّ أن أبحث عن تفسير يحل ما رأيته آنذاك تناقضًا بين قراءة القرآن وترتيله، وبين أهازيج العود وموسيقاه.. لم يشف غليلى إلا كلمات الأب الأستاذ أن للقرآن الكريم موسيقى ومعمارًا، وأن فنون القراءة والترتيل والتجويد قائمة على الإمساك بقواعد تجد بغيتها في الموسيقى، وأن عالمها عالم واسع، وأن الأغاني للأصفهاني محيط زاخر في البحور والأوزان والطبقات الصوتية، وبفنون الشعر والنثر ـ وأن هـذه وتلك لازمة مـن لوازم فنون الإلقاء في المحاماة، وأن المحامي ليس حسبه أن يلم بالقانون ويبحر في عوالم الثقافة والمعرفة ليمتلئ رأسه ويتفتح عقله ويربو حصاده، وإنما عليه أن يمسك زمـام وسائل الإقناع وأن يدرك أن فرصة الكـلام والحجـة في بلوغ الغاية تتفاوت صعـودا وهبوطـًا، أو إيجابًا وسلبًا ـ على قدر ما يستطيع المحامي أن يجدل المعاني في عبارة محبوكة، وأن يلقى بها بفن يحفظ له جسرًا حيًّا وواجبًا بينه وبين منصة القضاء..

وقد كان المرحوم عبد العزيز باشا فهمي إمامًا في اللغة، وإمامًا في تراكيبها ووزنهـا، وإمامًا في إلقائها.. شهدت على ذلك مرافعاته ومذكراته في المحاماة، وأحكامه في القضاء.

زر الذهاب إلى الأعلى