من أهرامات المحاماة عبد العزيز فهمي صاحب القمم المتعددة

من أهرامات المحاماة عبد العزيز فهمي صاحب القمم المتعددة

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 12/4/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

يكاد يكون عبد العزيز باشا فهمي، بلا نظير، في القمم المتعددة التي توسدها، فقد كان ـ رحمه الله ـ قمة في الوطنية، وقمة في المحاماة، وقمة في القضاء، وقمة في المناصب الوزارية التي توسدها، وقمة في اللغة العربية، وقمة في المواقف التي اتخذها من أجل وطنه، ومن أجل مبادئه، في كل القمم التي شغلها طوال حياته، مثلما كان يرحمه الله ـ قمة في سنوات عزلته بعد أن أوفي بواجباته.

جمع بين مشيخة المحاماة ومشيخة القضاء، فاعتز به المحامون وتفاخروا بمشيخته لهم في المهنة وفي نقابتها العتيدة، واعتز به القضاة شيخًا لهم، وخصصوا القاعة الكبرى في دار القضاء العالي لتحمل اسمه، متصدرةً في مكانها، ومتصدرًا هو في قلوب العارفين به.

كان أحد الثلاثة الذين ذهبوا يوم 13 نوفمبر 1918 ليقابلوا المعتمد البريطاني.. هو، وسعد زغلول، وعلي شعراوي، مطالبين بحق مصر في إيفاد وفدٍ لها إلى مؤتمر الصلح للمطالبة باستقلالها، وهو أحد زعماء الوفد الكبار قبل أن يختلف وآخرون مع سعد زغلول، وهو ثاني نقيبٍ للمحامين، وكان في وسعه أن يكون الأول، لولا أنه استجاب لطلب البعض أن يترك تلك الدورة لإبراهيم الهلباوي الأكبر سنًّا، فتنحى له عن طيب خاطر، وهو أول رئيس لمحكمة النقض والإبرام المصرية عام 1931، وهو وزير الحقانية الأسبق، والوزير عدة مرات، وثاني رئيس لحزب الأحرار الدستوريين، وعضو مجمع اللغة العربية، وهو شاعر متميز نظم ما يوازى في طوله المعلقات السبع المعروفة في الجاهلية، وهو الذي أبى عدله وصدقه مع نفسه إلاَّ أن يغادر موقعه كوزير للحقانية لأنه لم يقبل المحاكمة الهزلية المعقودة للشيخ على عبد الرازق عن كتابه «الإسلام وأصول الحكم» ، قائلاً إنه قرأ الكتاب فلم يجد فيه شيئًا يخالف الدين والاستدلال الصحيح، وأن المحكمة المعقودة له لا أصل ولا سند لها في القانون.

يروى في مذكراته: « هذه حياتي » فصلاً عن صداقته الحميمة وزمالة عمره لأحمد لطفي السيد أستاذ الجيل، ويروى فيما يرويه وقد تزاملا معًا بمكتب واحد في المحامـاة ـ « لماذا ترك أحمد لطفي السيد المحاماة كارها، واشتغل بالسياسة والصحافة راغبًا.. وكيف شكا إليه أنه يسمع من بعض المحتكين بالعمل فحش القول وهجره، ويجد من البعض غلظة » !!

في ذلك الزمن بمصر ـ في أواخر القرن 19 وأوائل القرن العشرين، كانت الهوة واسعة بين المحامين والقضاة، أو قل بين بعض المحامين وبعض القضاة، فلم يكن كل المحامين على شاكلة واحدة وتأهيل واحد، ولا كان القضاة كذلك.. فحين أنشئت المحاكم الأهلية سنة 1884 التي وافقت أحكام قوانينها في مجملها أحكام القوانين بالمحاكم المختلطة التي أنشئت سنة 1875 ـ لم يكن الفقه القانوني قد بلغ بعد مبلغًا ملائمًا في مصر، إذ لم يكن فيها من متخرجي الحقوق ما يكفي لمناصب القضاء والنيابة ناهيك بالمحاماة. ولهذا قضت الضرورة بأخذ كثير من القضاة بطريق الاستثناء، كما أن المحامين أمام المحاكم الأهلية كانوا في جملتهم من النبهاء الذين لم يدرسوا القوانين الحديثة، بل إن إبراهيم الهلباوي أشهر المحامين طرًّا لم يكن حاملاً لإجازة الحقوق، وبقى الأمر على ذلك حتى صدر قانون المحاماة الذي اشترط فيه أن يكون المحامي حاصلاً على ليسانس الحقوق أو شهادة عالية معادلة من مدرسة أجنبية !.. منذ ذلك الحين بدأ تيار ذوى الشهـادات القانونية يغمر القضاء والمحاماة، مما ترتب عليه تقارب العقليات بين القضاة والمحامين !

يوم التقى هو وسعد زغلول وعلى شعراوي بالمعتمد البريطاني السير ونجت، لم يطق ادعاء المعتمد البريطاني بأن مصر غير مؤهلة للاستقلال، ولا قوله تشبيهًا إن الطفل إذا أعطى من الغذاء أزيد مما يلزم تخم.

فانبرى يقول له:

« نحن نطلب الاستقلال التام وقد ذكرتم جنابكم أن الحزب الوطني أتى من الحركات والكتابات لما أضر ولم يفد، فأقول لجنابكم إن الحزب الوطني كان يطلب الاستقلال، وكل البلد تطلب الاستقلال، وغاية الأمر أن طريقة الطلب التي سار عليها الحزب الوطني راجعة إلى طبيعة الشبان في كل جهة، فلأجل إزالة الاعتراض الوارد على طريقة الحزب الوطني في تنفيذ مبدئه الأساسي الذي هو مبدأ كل الأمم، وهو الاستقلال التام، قام جماعة من الشيوخ الذين لا يظن فيهم التطرف في الإجراءات وأسسوا حزب الأمة وأنشـأوا صحيفـة « الجريدة »، وكان مقصدهم أيضًا الاستقلال التام، والغرض منه خدمة نفس المبدأ المشترك بطريقة تمنع الاعتراض، ونحن في طلبنا الاستقلال التام لسنا مبالغين فيه فإن امتنا أرقى من البلغار والصرب والجبل الأسود وغيرها ممن نالوا الاستقلال قديمًا وحديثًا.

تذرع السير ونجت بأن نسبة الأميين في مصر كبيرة !

فرد عليه عبد العزيز فهمى: إن هذه النسبة مسألة ثانوية فيما يتعلق باستقلال الأمم، وإن لمصر تاريخًا قديماً باهرًا وسوابق في الاستقلال التام، وهى قائمة بذاتها وسكانها عنصر واحد ذو لغة واحدة، وبالجملة فشروط الاستقلال التام متوفرة في مصر، وأما نسبة الأميين للمتعلمين، فهذه مسألة لا دخل لها في الاستقلال، لأن الذين يقودون الأمر في كل البلاد أفراد قلائل، فإني أعرف أن أرباب الحكومة في إنجلترا أفراد قلائل هم الذين يقودونها، ومصر يكفي أن يكون فيها ألف متعلم، ليقوموا بإدارتها كما ينبغي وهى مستقلة استقلالاً تامًّا ـ ونحن عندنا كثير من المتعلمين، وأما من جهة تشبيهنا بالطفل يتخم إذا غذى بأزيد من اللازم فاسمحوا لي أن أقول إن حالنا ليست مما ينطبق عليها هذه الشبه، بل الواقع أننا كالمريض مهما أتيت له من نطس الأطباء استحال عليهم أن يعرفوا من أنفسهم موقع دائه،  فالمصري وحده هو الذي يشعر بما ينقصه وما يفيده، فالاستقلال التام ضروري لرقيّنا.

في تأبين الراحل العظيم عبد العزيز باشا فهمي، قطب المحاماة، وقطب القضـاء، وقطب السياسة والوطنية، وقطب الفكر والأدب والثقافة، وقطب الإصلاح، وقطب مجمع اللغة العربية، وقف الأستاذ الكبير عبد الرزاق السنهوري يقول:

« إن الرجل الذي نؤبنه كان يمثل جيلاً كاملاً، بما ينطوي عليه هذا الجيل من علم ووطنية وأدب وثقافة وتفكيرٍ ! »

فما الذي جعل عبد العزيز باشا فهمى ممثلاً لجيل بأكمله ؟

زر الذهاب إلى الأعلى