مقاطعة الدين ومجافاة الأخلاق والقيم !! (5)
من تراب الطريق (1032)
مقاطعة الدين ومجافاة الأخلاق والقيم !! (5)
نشر بجريدة المال الأربعاء 3/2/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
عمومية اللغة وشيوعها غير المحدود واستعمالها الشامل الدائم من كل آدمي نهارًا وليلاً.. مع النفس ومع الغير.. في كل لقاء واتصال وفرصة.. قد جعلها من آلاف السنين بحرًا لجيًّا متلاطم الأمواج متغير الأعماق.. هذا البحر المتلاطم قد بات الآن في عصرنا محيطًا لا حد له.. غرقنا فيه جميعًا.. ليس له شاطئ ولا نعرف له عمقًا، نسينا فيه كليةً فضيلة الصمت، ونسى فيه معظم البشر، نسيانًا تامًا، سكون الوحدة وأمن الاعتكاف والابتعاد عن كل ما يشوش الانفراد الضروري لرعاية وإنضاج الفكرة أو الرؤية أو القرار .
ذلك المحيط كان لابد أن يختلط فيه كل شيء، ويتوه فيه الباطل مع الحق والزائف مع الصحيح والعكر الملوث مع النقي الصافي.. لأن أحدًا لم يعد يعنى عناية كافية خالصة بالتريث والتثبت والاتزان، أو يتحاشى الاندفاع والمجازفة والحماس على غير أساس.. تردى معظم الناس فيما اعتنقوه ورأوه بابًا جديدًا أوسع وأكثر صحة وأقرب للعقل وأبعد عن الكهانة والوهم.. واعتنقوا في اندفاع متعجل وقلة تبصر أنه سيؤدى حتمًا ودائمًا إلى استمرار التقدم والرقى والتطور بغير التواء أو ضياع، وأنه قد حل حلولا نهائيا بغير رجعة محلّ القديم بقصوره وعجزه !
ذلك الجديد المندفع المليء بالحماسة والجرأة واستعجال الأمور والاستخفاف بالعواقب ـ تجلت منذ الحربين العالميتين ـ بلاياه وأوزاره وآثامه وكوارثه ونكباته التي يبدو أنه لا آخر لها.. وقد عجزت عن إيقافها ـ فضلاً عن علاجها علاجًا ناجعًا ـ كل العلوم الوضعية الحديثة جدًّا والقديمة، وزادت في أيامنا الخلافات والاختلافات وانعدام الثقة وتوقع الغدر الدولي والمحلى بما لم يعرف له علاج مجدٍ حتى الآن !!
وفيما نعلم لم يفكر أحد حتى اليوم في معرفة من المسئول عن الزيادة المفزعة الآن في عدد سكان الأرض، ولا من المسئول عن إيجاد واختزان ما يوجد ويختزن اليوم في هذه الدولة أو تلك من آلات وأسلحة وطاقات ومعدات الدمار الشامل، ولا من المسئول عن فاقة وجوع وتعاسة أغلب خلق الله في دنيانا !
ويبدو أن السخط وحده قد بلغ القاع في أعمال الناس، فلم نعد نعرف المسئولية.. لأننا لم نعد نشعر بها.. وقد حل مكانها يأس ضارب للأعماق في كل فرد.. لا يريد أن يسأل أو يُسأل.. ولم يعد أحد يحاول أن يخفف أو يعالج، وإنما يشتهى داخله أن يهدم ويخرب في جميع الاتجاهات بلا انتقاء أو اختيار… ما يرجوه العاقلون أن تكون هذه حالة عارضة كحال سوابقها العديدة في ماضي البشرية الطويل، والتي جاءت بعدها إشراقات.. معها مزيد من اليقظة والنضج والفطنة.. وهى نعم تظهر ثم تختفي لكى تظهر أشد نورًا أو سطوعًا .
فما معنا اليوم من المتراكم المتوارث من بقايا الماضي الطويل البالغ الطول.. جبال هائلة يعرف أو لا يعرف لهـا أصـل.. ولـم يتح لها ـ مع تيار الزمن والاندفاع ـ تعديل وحذف وإضافة وتقديم وتأخير.. ما بلغناه في زماننا بسعينا أو خطئنا أو ميولنا وأذواقنا وأغراضنا وأطماعنا ومخاوفنا، وما عانيناه وكابدناه من الاختصار أو الطول والإسهـاب أو التحديد والغموض أو العمـوم أو الانتقال أو التغيير أو الاستغناء أو التحرك أو الاستبعاد ـ قد صار مع الزمن ركامًا من الجبال ـ يستحيل على قدرة آدمي ـ فردًا أو جماعة ـ أن يعرف أو يظن أو يتصور أو يتخيل إلاّ قدرًا محدودًا منها ـ تاركا باقيها في أغواره وأسراره.. حقًا كان أو باطلا !!.. نافعًا أو ضارًا.. بينما نتعرض جميعًا للاستسلام للإجهاد وتفضيل الأسهل على الأصعب والأقرب على الأبعد، وما يبدو لنا بسيطًا على المعقد.. إذ الأهواء غالبًا ما تتداخل وتؤثر في مسيرة العقول والمقاصد والإرادات والقرارات !
ثم نحن منذ وجدنا على هذه الأرض نتعايش اعتمادا على الظنون والاحتمالات.. لا يدرى الواحد منا ما يدور فعلاً في خلد أخيه.. وظنوننا واعتيادنا الدائم عليها ـ يعيننا على التصافي والتآخي وبالتالي على التحـمل والمصابرة ونسيان الأخطـاء والعـورات التي لا غنى من وقت لآخر عن حصولها، مثلما قد يحضنا على التباعد والانكماش والجفول.. وأحيانًا على التباغض الذي قد يتوارث ويصير في حكم العقائد !
لم يكن من ذلك بد فيما يبدو لأننا أحياء وبشر.. قد نتشابه فنجتمع، وقد نختلف فيبتعد بعضنا عن بعض.. ولكننا لا نقوى على الانفراد، ويستحيل علينا أن نتطابق أفرادًا وجماعات.. حيث لا معنى مع الحياة للتطابق كما قد تتطابق غير الأحياء من مركبات وأخلاط وجزيئات وعناصر.. ومن تكوينات للذرات ومن موجات وطاقات وقوى !