مفهوم البطولة في الشعر العربي (6)

من تراب الطريق (1092)

مفهوم البطولة في الشعر العربي (6)

نشر بجريدة المال الأربعاء 28/4/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

وقد كان المتنبي مرافقًا لسيف الدولة، وأبلى في المعركة بلاءً حسنًا، حتى إذا انتهت نهايتها المظفرة الرائعة وقف بين يدى سيف الدولة ينشد هذه القصيدة، وقد بلغ فيها الذروة في التعبير عن بطولة سيف الدولة وكماته الشجعان وإحساس العرب العميق بالعداء المستعر بينهم وبين الروم يقول في فواتحها :

يكلِّف سيفُ الدولة الجيشَ هَمَّـه وقد عجزتْ عنه الجيوشُ الخضـارمُ

يفدِّى أَتمُّ الطير عمرًا سلاحــَه نورُ المَلا أَحداثُها والقشاعــمُ

وما ضرَّها خَلْقٌ بغيـر مخالـبٍ وقد خُلقـت أَسيـافُه والقوائـمُ

هل الحدَثُ الحمراء تـعرف لـونهـا وتعلم أَىُّ السـاقيين الغمائــمُ

سَقَتْها الغمامُ الغُرُّ قبــل نزولـه دنا منها سَقَتْها الجمـاجـمُ

وكان بها مثلُ الجنون فأَصبحـــتْ ومن جُثَت القَتْلى عليهـا تمـائمُ

والمتنبي يعجب من تكليف سيف الدولة لكتائبه الصغيرة أن تنهض بهمّته في الحرب، وهى همّة أعظم من أن تنهض بها الجيوش الضخمة، ومع ذلك فإن جيشه القليل يحقق دائمًا من الانتصارات ما يهول ويروع، ويقول إن نسور الملا صغارها وقشاعمها أو عظاها تفديه بأرواحها

ومن تصوير المتنبي لجيش الروم وعدده وأسلحته وعتاده، وتلاقى زحفه مع زحف سيف الدولة وأصحابه . قوله :

أَتوك يجرّون الحديد كأَنهـم سَرَوْا بجيادٍ ما لهنّ قوائـم

إذا بَرَقوا لم تُعرَف البيض منهم ثيابهمُ من مثلها والعَمائـم

خميسٌ بشرق الأرض والغرب زَحْفُـه وفي أُذُن الجوزاء منه زمازم

تجمّع فيه كلُّ لُسنٍ وأمَّـــه فما تُفْهم الحُدَّاثَ إلاّ لتراجـم

فلله وقتُ ذوَّب الغِشَّ نـاره فلم يبق إلاّ صارمٌ أو ضُبارِمُ

تقطّع ما لا يقطع الِّدرْعَ والقَنا وفَرَّ من الأَبطال مَنْ لا يصادم

والمتنبى يصور فرسان الروم يثقلهم ما يلبسونه وتلبسه خيلهم من الحديد والفولاذ، فعلى رءوسهم الخوذ، وعلى أجسادهم الدروع وفي أيديهم التروس الضخمة، وعلى الخيل السروج والحديد المصفح الذي لا تكاد تبين منه قوائمه، وكل هذا الحديد يلمع تحت الشمس فلا يكاد الإنسان يميز بين سيوفهم وما يلبسونه، إذ كل ذلك حديد يلمع ويبرق، ويقول إن خميسهم أو جيشهم ملأ بكثرته الآفاق شرقًا وغربًا حين اخذ يزحف للمعركة . كما ملأها بعجيجه وضجيجه حتى لكأنما زمازمه أو أصواته بلغت عنان السماء وارتفعت إلى أذن الجوزاء وهى أصوات أخلاط من البيزنطيين ومن وراءهم من الأوربيين، أصوات مستعجمة متناكرة فيما بينها فما يتفاهم المتحدثون منهم إلاّ بمترجمين ينقلون عنهم، ويقول عجبًا : لله يوم هذه المعركة، فقد محا تمويه من يتظاهرون بالبطولة والفروسية، وكأنما نار صهرت التمويه والغش والخداع فلم يبق ولم يثبت سوى الصارم أو السيف القاطع والضبارم أو الأسد الشجاع، أما السيف الكليل فقد تقطع وأما الجبان فقد ولى الأدبار .

مضى المتنبي يصور سيف الدولة وبسالته في جحيم المعركة، وهو يشهد بقلب ثابت الانتصار العظيم وهزيمة العدو أمامه، وخيله تلحق به في ذرى الجبال طاعنة فاتكة ناثرة جثته وأشلاءه، يقول :

وَقَفتَ وَما في المَوتِ شَكٌّ لِواقِفٍ كَأَنَّكَ في جَفنِ الرَدى وَهوَ نائِمُ

تَمُرُّ بِكَ الأَبطالُ كَلمى هَزيمَةً وَوَجهُكَ وَضّاحٌ وَثَغرُكَ باسِمُ

ضَمَمتَ جَناحَيهِم عَلى القَلبِ ضَمَّةً تَموتُ الخَوافي تَحتَها وَالقَوادِمُ

بِضَربٍ أَتى الهاماتِ وَالنَصرُ غائِبُ وَصارَ إِلى اللَبّاتِ وَالنَصرُ قادِمُ

حَقَرتَ الرُدَينِيّاتِ حَتّى طَرَحتَه وَحَتّى كَأَنَّ السَيفَ لِلرُمحِ شاتِمُ

ومن طلـب الفتح الجليل فإنـما مفاتيحه البيض الخِفاف الصـوارم

نثرتـهمُ فـوق الأحيدب نثرةً كما نُثرتْ فوق العروس الدراهـم

تدوس بك الخيل الوكور على الذرى وقد كثرت حول الوكور المطاعـم

تظـن فِراخُ الفُتْـخ إنك زرتـها بأمَّاتـها وهي العِتـاق الصَّـلادم

إذا زلفـتْ مَشَّيْتَهـا ببطونـهـا كما تتمشَّى في الصَّعيـد الأَراقـم

 

زر الذهاب إلى الأعلى