مفهوم البطولة في الشعر العربي (2)

من تراب الطريق (1088)

مفهوم البطولة في الشعر العربي (2)

نشر بجريدة المال الخميس 22/4/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

يوم مؤتة في جنوبي الأردن، فوجئ المسلمون بأن جند الروم أضعاف أضعافهم، فقال بعضهم « نكتب إلى رسول الله ونخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا برجال، وإما أن يأمرنا بأمر فنمضى » ـــ ولكن عبد الله بن رواحة، وقف ينادى في الناس:

« يا قوم ! والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبونه وقد أدركتموه ». يريد بذلك الاستشهاد في سبيل الله ــ ثم أضاف يقول:

« وما نقاتَلَ الناسُ بعدد ولا قوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلاَّ بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا إلى لقاء القوم، فإنما هي إحدى الحسنين: إما انتصار، وإما استشهاد ».

ألهبت كلماته المشاعر، وصار كل منهم يود لو لقى مصرعه حتى تكتب له الشهادة، وابن رواحه يحثهم منشدًا:

ولكنني أسأل الرحمن مغفرةً وضربةً ذاتَ فَرْغٍ تقذف الزَّبدًا

أو طعنةً بيَدْي حَرَّانَ مجهزةً بحربةٍ تنفذ الأحشاءِ والكبدا

حتى يقولوا إذا مروا على جدثى أرشدك الله من غازٍ وقد رشدا.

يومها استشهد زيد بن حارثة وهو يقاتل قتالاً مستميتًا، فأستلم الراية جعفر بن أبى طالب، فعقر فرسة وظل يقاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ اللواء بيساره، فقطعت فاحتضنه بين عضديه، ينشد وروحه تفيض إلى بارئها..

يا حبذا الجنةُ واقترابها طيبةً وباردًا شرابُها

هنالك حمل عنه اللواء صاحبنا عبد الله بن رواحه، واقتحم الغمار وهو ينشد مشجعًا ومستحثًّا:

يا نفسُ إلاَّ تُقْلى تموتي هذا حِمامُ الموتِ قد لقيتِ

وما تمنيتِ فقد أعطيتِ وإن تأخَّرتِ فقد شقيتِ

نال البطل عبد الله بن رواحه الشهادة، كما نالها من قبله زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبى طالب. هنالك اختار المسلمون خالد بن الوليد قائدًا لهم، فاستطاع بحنكته في القيادة أن ينسحب سالمًا بقواته من ميدان القتال بخدعته المشهورة.

على أن تصوير بطولات الأبطال؛ لم يقتصر عليهم، وإنما كان غيرهم يتغنى شعرًا بهذه البطولات، كحسان بن ثابت شاعر الأنصار.

ومن أروع الأمثلة التي تروى في هذا الباب، صنيع الخنساء ليلة القادسية، وكانت قد هاجرت إليها مع أولادها الأربعة لتشهد جهادهم في الفتوح وقد حطمتها السن، وكانت قد اشتهرت في الجاهلية ببكائها على اخويها صخر ومعاوية، وظلت تلبس الحداد عليهما سنوات طوالاً ودمعها لا يرقأ ولا يجف، ودخلت في الإسلام وحسن إسلامها، حتى إذا كانت خلافة عمر احتسبت أفلاذ كبدها الأربعة للجهاد، وخرجت معهم إلى القادسية، وسعد بن أبى وقاص معسكر يجيشه ينتظر في الغد الموقعة الفاصلة، فتوجهت إلى أبنائها توصيهم وتدلع الحمية لديهم في قلوبهم، قائلة: « يا بني ! إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد وامرأة واحدة، وقد تعلمون ما أعد لله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله تبارك وتعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )، فإذا أصبحتم غدًا سالمين فاغدوا إلى عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها.. فيمَّمُوا ( فاقصدوا ) وطيسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة». وما كادت الخنساء تستتم كلامها حتى عاهد كل ولد من أولادها نفسه وربه أن يبادر إلى القتال.

حين يسمع نفيرها. وبادروا مبكرين، وحمل أولهم، وهو ينشد:

يا إخوتي إن العجوز الناصحة قد نصحتْنا إذا دَعتْنا البارحـة

مقالة ذات بيانٍ واضحـــة فباكروا الحرب الضّروس الكالحة

وأنتمُ بين حياةٍ صالحـــة أو ميتة تورث غنمًا رابحــــــة

وكأنه يشير في الشطر الأخير إلى قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ) [ الصف 10، 11 ] وكُتب له أن يصيب ما كان يَصبو إليه من تجارة وربح كبير، فقد ظل يقاتل حتى قُتل شهيدًا، وحمل أخوه من ورائه وهو يهتف:

إن العجوز ذات حزم وجَلَــدْ والنظر الأَفق والرأي السَّددْ

فباكروا الحرب حماة في العُدَدْ إما لفوز بارد على الكبـد

أو ميتةِ تورثكم عزَّ الأَبــد في جنة الفردوٍس والعيش الرَّغد

وهو يصف جنة الفردوس التي أعدت للمجاهدين بما جاء في نعتها من قوله جل شأنه في خطابه لآدم: ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا ) [ البقرة 35 ]، ومضى يطلب عيشها الرغد ويقاتل في لهفة على الاستشهاد حتى قُتل، وحمل حملتهما أخوهما الثالث وهو يلوّح بسيفه في وجوه الفرس منشدًا:

والله لا نعصى العجوز حَرْفا قد أمرتنا حَدبًا وعطفا

نصحًا وبرًّا صادقًا ولطـفًا فبادروا الحرب الضروب زَحْفا

ولعله يشير إلى الآية الكريمة: ( إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ). ومازال يقاتل الفرس مقدمًا غير محجم ومقبلاً غير مدبر حتى مات ميتة الأبرار. وحمل أخوهم الرابع، وهو يرتجر أبياتًا من مثل قوله:

إما لفوزٍ عاجلٍ ومَغْنَمِ أو لوفاةٍ في سبيل الأَكرمِ

واختاره الله لجواره، فلحق بإخوته. وتلقت الخنساء خبر مقتلهم، وكأنما كانت في انتظاره، فلم تنح عليهم نواحها على أخويها في الجاهلية ولا صاحت ولا أعولت، بل لكأنما فرحت لهم واستبشرت، وإذا هي تقول لمن أبلغوها نعيهم: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم في معارك الجهاد الشريفة، وأرجو منه أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.

زر الذهاب إلى الأعلى