مسك الختام في طوالع البعثة المحمدية
مسك الختام في طوالع البعثة المحمدية
نشر بجريدة الشروق الخميس 3/12/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
لست أخفي عن القارئ، أنه برغم عظمة وتعدد جوانب ما تناوله الأستاذ العقاد في كتابه الأسبق ظهورًا « عبقرية محمد » الذي صدر سنة 1940، قبل خمسة عشر عامًا من صدور « مطلع النور ـ طوالع البعث المحمدية » الذي صدر سنة 1955، وكان كتاب « عبقرية محمد » أول كتب الأستاذ العقاد عن رسول القرآن عليه الصلاة والسلام، وهو أيضًا أول سلسلة العبقريات التي اشتهر بها، وتناول فيه علامات المولد، وعبقرية الداعي: العسكرية، والسياسية، والإدارية، ومحمد البليغ، ومحمد الصديق، ومحمد الرئيس، ثم الزوج، والأب، والسيد، والعابد، والرجل، ومحمد في التاريخ، ويوم الغار، وتعددت بعده مقالات وبحوث الأستاذ العقاد عن الرحمة المهداة رسول الإسلام، وخاتم عنقود الرسل والأنبياء .
ومع عمق وعراضة وجمال كتاب العبقرية، وما تلاه من بحوث ومقالات عن الدعوة والداعي، إلاَّ أنني أعد كتابه هذا عن طوالع البعثة المحمدية، أوفي وأروع ما كتبه في هذا الباب، أقبل على قراءته كثيرًا، وأكاد أشفق من اقترب ختامه حتى لا أفقد الاستمتاع بما أنهله منه .
ولعل تسطيري هذه المقدمة؛ إشفاقًا من وصولي الآن إلى ختام الرحلة مع طوالع البعثة المحمدية، لأتناول بعده ما تركه هذا المفكر الأديب العملاق من درر تعددت وتنوعت في كل باب .
* * *
ختم الأستاذ العقاد حديثه عن أسرة النبي، بفصل عن والديه.. ومن المعروف أن النبي عليه السلام لم ير أباه، وأن أمه توفيت وهو في السادسة . وبرغم أن التاريخ لم يعقب كثيرًا على أنباء هذين الأبوين الشريفين، إلاَّ أن ما حدا بالأستاذ العقاد للحديث عنهما ما تركاه من أثر نفسى في وجدان ولدهما العظيم .
الأب عبد الله بن عبد المطلب، تكاد تكون أبوته صورة خاصة بين أبوات العظماء والأنبياء . فقد نجا من الموت ذبيحًا، وفاءً بنذر نذره أبوه، بيد أنه لم يكد ينجو من الذبح في قصة الفداء المعروفة التي افتُدِىَ فيها بنحو مائة من الإبل، حتى مات بعيدًا عن زوجته التي فارقها عروسًا حاملاً في ولده الذي لم تره عيناه .
ولا تملك إلاَّ أن تتوقف عند واقع متكرر، ينبئ عن إرادة علوية، أن الأب لم ينجب سواه، وأن الابن ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يعش له أبناء من الذكور .
وقد يستوقفك أن في تاريخ الأنبياء من أنكره أبوه، كحال إبراهيم الخليل ووالده، أو خذله ابنه، كما كان من أمر ابن نوح عليه السلام .
وقصة زواج عبد الله بن عبد المطلب بآمنة بنت وهب، أم محمد عليه السلام، سبقتها وواكبتها وتبعتها علامات، يتعرض لها الأستاذ العقاد، معتنيًا بالمعقول منها وما صاحبه من أمارات كالتي مررنا ببعضها في بدايات هذا الكتاب .
ويتوقف الأستاذ العقاد عند الضربات التي تلقاها اليتيم من بداية حياته، استقبلها وقد رحل أبوه، وأرضعته أمه وأرضعته معها « ثُوَيْبة » جارية عمه أبى لهب، ثم عُهد به إلى حليمة السعدية ليقيم معها في البادية حيث النشأة السليمة واللغة الصحيحة، ولم يكن الطفل اليتيم على يسار لأن أباه مات في مقتبل الشباب . ولكن أسرة أبيه وأسرة أمه تكفلتا بنشأته كما ينشأ أبناء السراة من قريش .
وقد حدث أن المرضعة أخذته بعد تردد، ثم أعادته إلى مكة قبل أن يبلغ الثالثة، لأنها سمعت من ابنها أن أخاه القرشي قد صُرِعَ وهو معه، وأن رجلين أخذاه فإذا هما يشقان
بطنه، فلما ذهبت إليه وجدته ممتقع الوجه، فبادرت به إلى مكة خوفًا عليه . ولكن أمه طلبت إليها أن تعود به فعادت به إلى البادية، حيث بقى معها هناك إلى سن الخامسة أو قبلها بقليل.
ولم يكد الصبي يطمئن إلى جوار أمه، حتى فقدها وهما في طريق العودة من المدينة بعد أن كانا قد زارا في الطريق إليها قبر أبيه، واجتمعت على الصبي غربتان: غربة الموت وغربة المكان، فضلاً عن غربة فقد أبيه الذي لم يره .
أطبقت على الصبي كل هذه الضربات والصدمات، وهي دالة على الروح العظيم الذي تجلى بعد ذلك في تاريخ كان فيه كفؤًا ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأعظم الأعباء وأفدح الخطوب .
وقد خرج الصبى من تلك الضربات القاصمة بالعاطفة الزاخرة التي تشمل العالميْن: عالم الحياة وما بعد الحياة .
وقليل في جنب هذا فائدة العطف الذي تبدى فيه من صباه إلى ختام حياته، هذا العطف الذي أحاط به كل إنسان وكل حيّ وكل شيء .
ولا يدع الأستاذ العقاد الكلام عن الأسرة النبوية دون التوقف عند ملاحظة أن والديه قد ماتا ولم يجاوزا الخامسة والعشرين ! والموت في هذه السن قد يكون علامة على ضعف أو هزال إن لم يكن مرضًا يستنفد الأجل في عنفوان الشباب .
فهل كان محمد عليه السلام سليل أبوين ضعيفين هزيلين ؟ يدفع ويزيل هذا الظن حياة الوليد بما استوفته من قوة الروح وقوة البدن .
لقد سأل بعض كتاب الغرب هذا السؤال، وخيل إليهم أنهم وجدوا أن الجواب في قصة الصرع المزعوم، دون أن يتفطنوا إلى أن الصرع إن كان ـ لا يأتي مرة واحدة في العمر لا يأتي بعدها أبدًا . وأعجب من هذا الخبال أن يعتبروا تلقى الوحى بهذا القرآن العظيم صرعًا !
كان محمد عليه الصلاة والسلام ـ باتفاق جميع واصفيه ـ فوق المربوع، بعيد ما بين المنكبين، غزير الشعر، تلمس جمته ( موضع تجمع شعر الناصية في اتجاه المنكبين ) شحمة أذنيه، شنن الكفين والقدمين، ضخم الكراديس ـ أي ملتقى العظام ـ ولم يكن بالمطهم ( المنتفخ الوجه ) ولا بالمكلثم ( المدور الوجه )، أدعج العينين، أهدب الأشفار ( طويل أهداب العين )، إذا مشى تقلع كأنما ينحط من صبب، ذريع ( واسع ) الخطوة، سائل الأطراف ( طويل الأطراف طولاً معتدلاً ) .
ويختم الأستاذ العقاد هذا الفصل قائلاً: لقد جُعِلت رسالة محمد حيث ينبغي أن تكون ـ خَلقًا وخُلقًا ـ من ميراث الزمن وميراث الأجداد والآباء، فكل خلق وُصف به فهو الصالح لأداء رسالته والنهوض بأمانته . إن تكن ضريبة من ضرائب العظمة الكبرى ـ ولا بد لها من ضريبة ـ فتلك هي النقص في نسله ليستوفي التمام من أمر هذه الذرية الباقية إلى يومنا، وبعد يومنا، جامعة واعية لكل تابع من تابعيه، وكل مولود له في عالم الضمير من بنيه وغير بنيه .
وإنه لعلى خلق عظيم ..
وإنه لعلى خلق قويم ..
نتيجة النتائج
ونتيجة النتائج من مقدماتها جميعًا ـ فيما يختم به الأستاذ العقاد ـ أن حوادث الدنيا وحوادث الجزيرة وحوادث الأسرة، قد مهدت سُبُلاً شتى للرسالة المحمدية، ولكنها مهدتها لتأتى الرسالة بعدها فتعيدها على العالم الإنساني في نسج جديد .
يتيم في غير ذلة ..
عزيز في غير قسوة ..
يرث الكعبة ولكنه يهدم أربابها، ويرث الأريحية من يقين بنى هاشم ولكنه يغير مجراها، ويرث العصبية في أقواها وأمنعها ولكنه يقودها إلى عصبية واحدة تضم إليها العرب والعجم، وتؤمن برب واحد هو رب العالمين .
مهدت له الدنيا طريقًا ولكنه هداها إلى غير تلك الطريق .. فهما تمهيدان يتلاقيان ويفترقان: تمهيد من قوانين الكون وتمهيد من العناية الأزلية، وحين ينهض رجل واحد بما يأباه قومه ويأباه معهم أقوام زمانه، فليست هي بإرادة الإنسان ولكنها إرادة الله، وما هي بقدرة أحد أو آحاد، ولكنها قدرة الخالق فيما خلق، يوليها من يشاء حيث شاء .