مرحلة التفكير والأعمال التحضرية لارتكاب جريمة بين الإباحة والتجريم
بقلم الدكتور/ أشرف نجيب الدريني ـ دكتوراه في القانون الجنائي
قد يتساءل البعض عن موقف قانون العقوبات من مرحلة التفكير وعقد العزم والتي لا تشكل سلوكًا ماديًا ملموسًا، يرتقي إلى البدء في تنفيذ النشاط الإجرامي، ولا تدخل في نطاق الأعمال التحضيرية لارتكاب الجريمة، ولا تعد أحد الشروط المفترضة التي تسبق النشاط الإجرامي المُكون للركن المادي للجريمة، لذا سنلقي الضوء من خلال هذا البحث على جميع هذه المراحل التي تسبق البنيان القانوني للجريمة من حيث الركن المادي والركن المعنوي. وقسمنا البحث إلى مطلبين: الأول: مرحلة التفكير وعقد العزم، الثاني: مرحلة الأعمال التحضيرية والمحاولة
المطلب الأول: مرحلة التفكير وعقد العزم
تنقسم مرحلة التفكير وعقد العزم إلى مرحلتين وليست مرحلة واحدة مدمجة. ففي مرحلة التفكير في الجريمة، يمر الجاني بعمليات نفسية وعقلية تتضمن مداولة بينه وبين نفسه. ومن الواضح أن الجريمة لا تحدث إلا في الفكر ولم يتم تحديدها بعد، لذا فإنه من المستحيل تنفيذها ومعاقبته. ولكن، يعود عدم العقاب هنا إلى أن القانون الجنائي لا يتداخل مع الأخلاق، فهو لا يعاقب الأفعال التي تتعارض مع القيم الأخلاقية، بل يعاقب الاضطراب الذي يحدث في المجتمع.
ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا بتأثير خارجي. عندما نتحدث عن مرحلة العزم، نقصد أنها تمثل نهاية مرحلة التفكير واتخاذ القرار بارتكاب الجريمة. في هذه اللحظة، تنتصر الرغبة في الجريمة على الخوف ويتم اتخاذ قرار كامل بارتكاب الجريمة. هذه هي المرحلة التي يتم فيها تحديد القرار الإجرامي بِناءً على الفرص المتاحة والخطة المعدة وتقدير الأفراد للمخاطر المحتملة. وعلى الرغم من أن مرحلة العزم على ارتكاب الجريمة تعتبر مرحلة الإرادة الإجرامية الكاملة، إلا أن المشرع قد أعلن عدم العقاب في المادة 45 من قانون العقوبات.
ولا يرجع ذلك إلى أن هذه المرحلة تخلو من الإثم الداخلي على العكس، فهذا التصميم الاجرامي عمل غير أخلاقي ومُدان، ولكن المشرع قد يرى في بعض الحالات خطورة معينة في بعض مظاهر عقد العزم على الجريمة، فيعمد إلى تجريم هذه المظاهر، كما هو الحال في العقاب على مجرد التحريض على ارتكاب جريمة معينة ولو لم يترتب على هذا التحريض أثر (التحريض غير متبوع الأثر) المادة 95 من قانون العقوبات أو الدعوة إلى الانضمام إلى اتفاق يكون الغرض منه ارتكاب جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المادة 97 من قانون العقوبات، ولو لم تقبل دعوته.
كما هو الحال في جريمة التهديد الكتابي أو الشفوي بارتكاب جريمة المادة 327 من قانون العقوبات، فضلًا على نص المادة السادسة من قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015 ” يعاقب على التحريض على ارتكاب أية جريمة إرهابية، بذات العقوبة المقررة للجريمة التامة… ولو لم يترتب على هذا التحريض أثر…” بل والأكثر من ذلك ما جاء في ذات القانون آنف الذكر في المادة الأولى الفقرة (ب) في تعريف الإرهابي ” كل شخص طبيعي يرتكب أو يشرع في ارتكاب أو يحرض أو يهدد أو (يخطط) في الداخل أو الخارج لجريمة إرهابية…” يُخطط والتخطيط جزء من (التفكير) الداخلي النفسي الذي يسبق مرحلة عقد العزم، ليتحقق بِناءً على التخطيط شرط مفترض في الجريمة الإرهابية، وهو صفة الإرهابي.
ومما ينبغي الانتباه إليه كما قدمنا، أن المشرع في هذه الجرائم لا يُجرم هذه الأفعال باعتبارها مرحلة مُبكرة لارتكاب الجريمة، أي باعتبارها كاشفة عن التفكير وعقد العزم عليها، بل باعتبارها جرائم مستقلة، فالفاعل قد قام فيها جميعًا بنشاطٍ ماديًّ رأي المشرع فيه في ذاته خطورة معينة استوجبت في نظره التجريم.
المطلب الثاني: مرحلة الأعمال التحضيرية والمحاولة:
في هذه المرحلة يكون الجاني قد تجاوز مرحلة التفكير والعزم، فاختمرت فكرة الجريمة في رأسه وراح يعد لها عدتها. بحيث يخرج فيها الجاني من المرحلة النفسية إلى العالم الخارجي بأفعال مادية ملموسة، فهي لاحقة على التصميم ولكنها سابقة على التنفيذ، فهذه المرحلة تشمل كل أعمال التجهيز، أي كل الأعمال الخارجية التي يتجه بها المتهم إلى تحقيق مشروعه الإجرامي، وقد يتخذ الإعداد للجريمة صورة إعداد الوسيلة أو التواجد في المكان الذي يمكن معه تنفيذ الجريمة. ولا أدل على ذلك مثل أن يشتري الجاني سلاحًا أو المادة السامة.
وقد حكم بأن “تحرير الشيك وتوقيعه مجرد أعمال تحضيرية لجريمة إعطاء شيك بدون رصيد” نقض 22/11/1960 مجموعة أحكام محكمة النقض س11، ص811، رقم 175. وعلى الرغم من أن الصفة الإجرامية في هذه المرحلة أوضح منها في مرحلة العزم والتصميم، فمرحلة التصميم تبدي معنى التهديد باعتداء بعيد عن الأمن الاجتماعي، والأعمال التحضيرية تبدي هذا التهديد بشكل أكبر، ألا أن المشرع قد صرح بعدم العقاب عليها، وقصر الشروع على مرحلة البدء في التنفيذ، إذ لو قيل بالعقاب على مثل هذه الأفعال لما فكر مرتكبها في العدول عن تنفيذ الجريمة التي أعد لها، ألا أنه هناك مرحلة وسطة بين الأعمال التحضيرية والبدء في التنفيذ تسمى (المحاولة) وقد عرفتها محكمة النقض فقالت “أن المحاولة هي دون الشروع من الأعمال التي يقصد بها الوصول إلى الجريمة وأن لم تصل إلى البدء في التنفيذ” نقض 21/12/1959، مجموعة أحكام النقض، س10، ص 1029.
وقد ورد النص على عقاب المحاولة في قانون العقوبات، مثال المادة 87/1 ” …كل من حاول بالقوة قلب أو تغيير دستور الدولة أو نظامها الجمهوري…” كما تنص المادة 90 مكررا/1 “…كل من حاول بالقوة احتلال شيء من المباني العامة…”، علاوة على نص المادة 115 عقوبات ” كل موظف عام حصل أو حاول أن يحصل لنفسه أو حصل أو حاول أن يحصل لغيره…”، علاوة على نص المادة الثانية من قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015 ” ….وكذلك كل سلوك يرتكب بقصد تحقيق أحد الأغراض المبينة بالفقرة الأولى من هذه المادة، أو (الإعداد لها) أو التحريض عليها…” هنا الجريمة تامة بمجرد الإعداد، بمعنى التحضير لها، فضلًا عما ورد في ذلك في بعض القوانين الخاصة. وتصدق هنا أيضًا ذات الملاحظة التي سبق إبداؤها بالنسبة لمرحلة التفكير وعقد العزم، وهي أن المشرع حين يجرم هذه الأفعال لا يجرمها بحسبانها تحضيرًا للجريمة ولكن لما أنبأت عنه وكشفت من خطورة ذاتية تستوجب تصدي المشرع لها بالتجريم.
راجع في ذلك/د/ عبد الرءوف مهدي، القواعد العامة لقانون العقوبات، دار النهضة العربية 2021. د/ عبد العظيم مرسي وزير، شرح قانون العقوبات، القسم العام، النظرية العامة للجريمة، الطبعة التاسعة، دون نشر، 2011.د/ عبد العظيم مرسي وزير، الشروط المفترضة في الجريمة، الطبعة الثانية، دون نشر، 2014.د/ أحمد شوقي عمر أبو خطوة، شرح الأحكام العامة لقانون العقوبات، دار النهضة العربية، 2014.