مرحلة ازدهار اللغة القانونية ولغة جهازها القضائي
بقلم/ الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني – المحامي، وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية بمينسوتا
مرت اللغة القانونية بمراحل أربع، المرحلة الأولى: منذ حكم محمد علي لمصر ( 1805 – 1849 م) فنشأت على يد القضاة الشرعيين والأصوليين وبعض القانونيين المترجمين ، ثم كانت المرحلة الثانية : ( 1850 – 1950م ) إذ بلغت أوج ازدهارها بفعل حركة التعريب القوية للقوانين ، ومع تأسيس مدرسة الحقوق والبرلمان والأحزاب.. ، ثم دخلت في مرحلة جمود ( (190- 1980م ) ثم إلى مرحلة السقوط ( 1980م – حتى الآن ) وهي تترنح في أسوأ مراحلها على الإطلاق.
نتابع ما ابتدأناه في المقالاتِ السالفة ، بأن اللُّغة القانونية مرتْ بأطوار عدَّة نشأةً وازدهارًا ثم خمولًا وجمودًا حتى انتهت إلى السقوط ، نعم السقوط وهي مشكلة ليست كأية مشكلة …!!!
إنها مشكلة مؤسسية ، إنها مشكلة نظام قانوني في كافة جوانبها…إنها وبحق مشكلة حقيقية، بل قل إنها أزمة داهمة …!!
ألا وهي أزمة ضعف وسقوط اللغة القانونية المكتوبة والمنطوقة معا بين القانونيين وفي مؤسسات القانون وكياناته وأجهزته القضائية على وجه الخصوص، وظواهر هذا الضعف جلية واضحة في المكاتيب القانونية وفي المشافهات والمرافعات ماثلة بين يدي الناظرين ، أخطاء فاحشة وعامية طاغية ، عربية ركيكة قصاراها هو التقليدية والنمطية دون جديد ولا تجديد ….!!!
ولولا المقام العلمي ….والسياق القانوني …ومحاولة التلطف والمجاملة لقلت : إنها طامة وليست ظاهرة، وإنها كارثة وليست مجرد مشكلة، فتخلف اللغة القانونية يعني فقدان السيطرة على فهم نصوص القانون وضعف القرائح عن استخلاص أحكامها …فضلا عجز أطراف التداعي عن تقرير حقوقهم وتبيان حججهم… !!!!
وما النظام القانوني وجهازه القضائي إلا نصوص مكتوبة و أوراق مسطورة ومعان مقولة ومرافعات ومداولات لحفظ الحقوق وحمايتها …. !!!!
وعلى قدر ضعف لغة القانون يكون ضعف حماية الحقوق وبطء العدالة وتخلف نجازتها على نحو ما سلف ذكره في المقالات السابقة …!!
وإنها لإحدى العظائم أن يدرأ بعض القانونيين ممن يتوجب عليه أن يلمَّ باللغة كأحد أهم أدواته في الفهم والاستنباط والصياغة القانونية ليقول لك نحن رجال قانون ولسنا رجال لغة …!!!
وهل القانون إلا علم اجتماعي يقوم باللغة ويُفهم باللغة ويَحكم باللغة، فهي جوهره ووعائه وهي شكله وأداته ، والقصور عنها قصور في القانون والترقي فيها رقيٌّ للقانون..؟!!!
وبمثل هذه الحجج الزائفة كان ويكون انهيار اللغة العربية ابتداء؛ فضلا عن انعدام وجود كيان لغوي باسم : اللغة القانونية ” يعنى بالمباحث الأهم في اللغة والأقرب إلى العلوم القانونية كما هو الشأن في مبحث :” القواعد الأصولية اللغوية ” ،يساعد على بناء القاعدة القانونية ويضبط عمليات فهمها واستخلاص الأحكام عنها … دع عنك إيجاد كيان علمي لها أو كيان مؤسسي باسم اتحاد لغة القانون أو اتحاد لغة القانون والأصول على سبيل المثال …!!!
وبمثل ما سبق من المقولات الفارغة تتعاظم ظواهر تلك المشكلة وتتفاقم وليتها كانت مشكلة إقامة الجملة برفع فاعلها ونصب مفعولها فما أيسر هذا..!!
بل صلب المشكلة يتجلى في نقطتين وهما :
الأولى : ” ضعف التعبير والتواصل القانوني.
بدءا من الصياغة المحكمة للنص القانوني ومتعلقاته الكتابية (سواء كانت كتابات رسمية تقريرية أو كتابات بيانية مساعدة) وكذلك متعلقاته الشفاهية ( حيث المرافعات والمخاطبات بل والاتصال القانوني في عمومه ) ، بما يسقط هيبة النصوص والأحكام ويقلل فاعليتها وآثارها في الضبط والتنظيم ولهذا تفاصيله فيما بعد .
الثانية: حلول التنازع والتخالف في فهم القواعد القانونية
وفي تفسير ومدلولاتها وتأويل متعارضها والجمع بين أطرافها …بين القانونيين وبين أطراف المعاملات القانونية ” وهذه هي المشكلة على سبيل الإجمال ،وتفصيلها وذكر ظواهرها يطول ويكفي الإشارة إلى أثرين رئيسين لها :
أولهما : بطء العدالة وانتفاء نجازتها .
ثانيهما: طروق التساؤلات الجدية فقهيا وعلميا حول تأسيسات الأحكام وتأصيلاتها ….!!
فضلا عن حلول تريُّبات لدى البعض من الأحكام بالجملة…!!! وقد يصعدُ هذا التريُّب لدى بعض ضعاف النفوس إلى مُصدري الأحكام وإلى مؤسساتها بالجملة [نسأل الله الحفظ لأوطاننا والسلامة لأنظمتنا القانونية والقضائية ]
على أي حال فلنعد إلى موضوع المقال ولنتحدث عن مرحلة الازدهار اللغوي العام وازدهار اللغة القانونية على وجه الخصوص ، عسة المسئولين أن ينتبهوا أو يزدجروا وأن يفيقوا لحماية القانون ووظائفه بحماية لغته والقيام عليها … والرفد من سبرة القانونيين العظام فبلنا ، وما ومننا من زمانهم ببعيد …!!
المرحلة الثانية: مرحلة ازدهار لغة القوانين الوضعية ولغة جهازها القضائي واستقرارها
تلا المرحلة الأولى عهدٌ جديدٌ نسبيا كثرت فيه البعثات العلمية للخارج وتنوعت فيه التخصصات ، وبدأت فيه أيضا المؤسسات العلمية والإدارية تتوسع على أشدها ، بما يشبه نهضة شاملة علمية وثقافية وتنظيمية ، وقد عمَّت هذه النهضة اللغةَ العربيةَ في عمومها وخاصة مع ظهور الصحف وانتشار المجلات باعتبارها لغة الفكر والثقافة ، كما كانت لغة الدولة المصرية الرسمية بحسبانها لغة النظام الإداري للدولة ، وبحسبانها اللغة البنائية والدلالية للقانون وتنظيماته الجديدة ونظامه القضائي المحدث .
وفي هذه المرحلة أيضا قامت القواعد الأصولية اللغوية صحبة القواعد العامة للغة العربية مع مهارات وخبرات المبتعثين وخبرتهم في الترجمات عامة وفي التعريب القانوني خاصة قامت بدور فاعل في بناء لغة هذا النظام القانوني الوضعي وفي رفد جهازه القضائي بكافة احتياجاته اللغوية .
وقد صاحب ذلك تغييرات سريعة في حركة التشريعات الوضعية وفي تنظيمات الجهاز القضائي ، إضافة إلى النشوء المتتابع لمؤسسات الدولة الحديثة ، حيث تأسيس البرلمان و الجامعة الأهلية – جامعة القاهرة فيما بعد – وكلية الحقوق وتأسيس الأحزاب وغير ذلك من العوامل التي كانت في صالح ازدهار اللغة القانونية الوضعية وفي صالح استقلال المؤسسة القانونية الوضعية وجهازها القضائي ، بل والجهاز الإداري للدولة بعامة .
وبالرجوع إلى حقبة النظام القضائي المختلط وإليه بعد توحيده .يمكننا تتبع موقع اللغة الأصولية وكيف ساهمت في وضع أبنية ودلالات القواعد القانونية الوضعية، وكيف صاغت جملها ونظمت نصوصها ورسختها …فمنذ إصلاحات محمد على الكبرى وبعد أمره بترجمة بعض القوانين اللازمة للنهضة في أعمال الإدارة والمرفق العام ، إلى هنا كانت لأحكام الشريعة السيادة ، ثم تطورت الأمور بعد ذلك لدى أولاد محمد علي وأحفاده فأصدر صدر سعيد باشا قانون الجزاء الهمايوني 1855م الذي ظل قائما حتى صدور قانون العفويات الأهلي 1883م، وعيب عليه عدم المساواة والعقوبات القاسية والتحكم القضائي وتجاوز المسئولية الشخصية إلى غير الجاني … إلى غير ذلك .
ثم في سنة 1876 م أنشئت المحاكم المختلطة ، هي محاكم أسسها الخديوي إسماعيل في أكتوبر 1875 [صممها نوبار پاشا ، لتكون جزءاً من خطط الخديوي الكبرى في مصر، ليتقاضى إليها رعايا الدول الأوروبية، الذين كانت المعاهدات تمنع تعاملهم مع القضاء المصري المحلي].
وصدرت القوانين التي تطبقها ، مثل قانون العقوبات المختلط وقانون تحقيق الجنايات، ويذهب بعض الفقه إلى أن 13 نوفمبر 1883م هو تاريخ التشريع الجنائي الأهلي وتأسيس المحاكم الجنائية ( الأهلية ) في بداية الفصل للأحكام عن أحكام الشريعة حيث صدر قانون العقوبات الأهلي ، وقانون الجنايات الأهلي .
وقد استمد من القانون الجنائي الفرنسي كمصدر أساسي وبعض التشريعات الجنائية الأخرى”[ شريف كامل، شرح قانون العقوبات القسم العام ص 35-36 ، وهو ما أقر بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات وخفف من قسوة العقوبات وأكد مبدأ شخصية العقوبة ] .
ثم دخلت اللغة القانونية طورا جديدا من السيادة بإلغاء المحاكم المختلطة في 1937م [وقد ظلت في فترة انتقال حتى سنة 1949م] وبصدور قانون العقوبات الحديث 1937م ، الذي يسري على المصريين والأجانب محل قانون العقوبات الأهلي الصادر في 1904م ،وفي سنة 1950م صدر قانون الإجراءات الجنائية الحالي [د. شريف كامل، شرح قانون العقوبات القسم العام ص38 ]، حتى جاءت سنة 1955م فصدرت لوائح وقرارات تم بها فصل النظام القضائي عن النظام الشرعي تماما إلا في مسائل الأحوال الشخصية على أن عادت الشريعة ثانيا باعتبارها مصدرا رئيسا للتشريع وذلك بالنص عليها في دستور ١٩٧١م من خلال تعديل للدستور فى العام ١٩٨٠، واستقرت في الدساتير بعد ذلك ، حيث المادة الثانية في الدستور المصري 2014 تنص على «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع ” ، وتوالت بعد ذلك أحداث صبت في تعزيز النظام القانوني الجديد وجهازه القضائي الوليد .
وفي كل ما سبق من أحداث بلغت اللغة القانونية أوج ازدهارها وبسطت سلطانها لا في مؤسسات القانون ونظامه القضائي فحسب، بل وفي مؤسسات الدولة وكياناتها الرئيسة بعامة ، ويمكن إرجاع هذا الازدهار اللغوي وذلك الاستقرار لعدة عوامل سنأتي عليها بالحديث في المقالة التالية بإذن الله تعالى .