مرآة الحياة !
مرآة الحياة !
نشر بجريدة الوطن الجمعة 16 / 10 / 2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
ترى ما الذى كان عليه الكون قبل وجود الروابط القابلة للتعقل بين مكوناته ـ أعنى ما يقبل التكرار ويذعن للإعادة والانتظام والنظام ؟ .. هذه الروابط القابلة للتعقل هي خيوط الوجود وجسوره وطرقه ـ لا يستغنى عنها ولا يمكن أن يستغنى عنها شيء مما نسميه خيرًا أو شرًّا ، وهى التي يتجه منها وإليها ويستعملها ويلتقى فيها ـ كل ما يمكن وصفه بأنه خير وشر .. لأنها هي جسور وخيوط وطرق مشتركة للخير والشر معاً .. ولوحدة الكون الذى يمكننا تعقله .. ولأن تكوين الكائن الحى قائم كله على أساس وجود الروابط وقابليتها للتنقل وللتكرار والإذعان للإعادة والانتظام والنظام .. ولا فرق في ذلك بين الآدمي وبين « الميكروب » .. وهذا يكاد ينطبق تماما على الكائنات غير الحية إذا توسعنا في معنى الإذعان والاعتياد والوجود والكون والنظام !
* * *
هذا وتنقية الماضي من الأساطير التي فقدت وظيفتها ولم تعد لازمة ولا نافعة لحياة الآدمي في واقع حياته ـ عمل واجب .. لكنه ليس سهلاً ولا خاليا من المخاطر . لأن الأساطير تبنى عليها عادات فكرية وسلوكية وأذواق وقيم ونظم ومهن وحرف ، ويُبنى عليها ثقافات وعمران وحضارات وتواريخ وأديان وعلوم وفنون .. كما يُبنى عليها أخلاق ومشارب وفوارق ومميزات وعصبيات وقرابات واختلافات وعداوات .. ويُبنى عليها مدن وقرى وحدود وحُصُون .. وبُنى عليها لغات ورموز وشارات وأعلام . إذ الأساطير أبكار أهدتها وتهديها المخيلة إلى عقل الآدمي وعواطفه وروحه ـ بلا انقطاع . كما يهدى المبيض بويضاته إلى الرحم ثم إلى دنيا الأحياء !
* * *
لو عرف الإنسان طعم ما يقوله أو ما يفعله أو ما يحس به قبل أن يقوله أو يفعله أو يحس به معرفة تامة ـ لأصبح قديماً ولا ستغني عنه ، ولتوقفت مسيرة حياته بتوقف الجدة والجديد فيها .. وهما ما يحرك ويوقظ رغبة الإنسان فيها وجاذبيتها له . وخوفه من هذا الجهل الجزئي الملازم لكل نشاط نمارسه منذ أن نولد إلى أن نموت ـ هو أساس كل توقع وكل أمل وكل خوف وكل حركة حية وكل سكون حى !
ووعى الآدمي هو مرآته للحياة ، ماضيها وحاضرها ومستقبلها. هذا الوعى تختلف سعته وحجمه على قدر إدراكه لما هو عليه ومعه في ماضيه وحاضره وتصوره واستشرافه لما سيحدث أو يتمنى أو يخشى حدوثه .. هذا الوعى لا حدّ لنموّه كما لا حدّ لضيقه أو ضموره .. يبدأ في كل آدمي عن جهالة تامة لأنه يولد لوالدين أو محيطين محكوم كل منهما بنسبة وعيه ، وينمو منذ الميلاد ومع أطوار العمر وما يصادف الآدمي فيها ، ثم ينتهى بانتهاء حياته على قدر ما بلغه في رحلتها من النمو والاتساع أو الضيق أو الضمور .
يستحيل ابتداءً وانتهاءً أن يكون وعى أي حىّ مطابقًا لواقع الحياة أو لتركيب الكون العظيم .. لأن علم الآدمي كل آدمي ـ طارئ غير تام الصحة ! .. وهذا العلم الذاتي ليس إلاّ علمًا نسبيًا راقبه صاحبه وجربه ونجح فيه ، فصاغ نجاحه بلغته أو برموزه أو بهما معًا ليتبعه غيره من البشر .. وقد يتكرر نجاحه أو لا يتكرر .. فالنجاح في حياة البشر مبناها المتبع الغالب لا يُستثنى من ذلك إلاّ الحتمي اللازم الدائم .
يحدث ذلك برغم أن كل آدمي غارق مستغرق في نفسه وذاته ثم أهله ، اللهم إلاّ باستثناء قلة نادرة .. ووعى هذه الكثرة مشغول بما عند كل منها من حاله وصحته ومرضه وصغره وشبابه ورجولته وكهولته وشيخوخته ..حفىٌّ بيومه وغده ومأكله ومشربه ويقظته ونومه ومقره وسكنه .. معنىٌّ بما له وما عليه بالعمل والبطالة وبالمجهود والراحة ، وملتفت إلى الإنجاب والفقد والوفاق والخصام وإلى الهيئة التي يتخذها عن اعتقاد بأنها تقدم وتمكن له فى عيون الناس ! .. وتسهل له الانتقال والاتصال .. وإلى ما يمكنه اغترافه من المتعة والتزين والرياضة واللهو واللعب ، وإلى الانشغال بما لديه أو يطمع في تحقيقه من القوة والنفوذ والثراء ، وما يصيبه من الأمل أو اليأس ، ومن السرور والبهجة أو الحزن والغم والخوف !
ومن العسير على جمهور الناس وإن طالت أعماره واتسعت مسالك تبصره وتعمقه ـ من العسير أن يخلص الحىّ حياته من غمار هذا الإغراق أو الاستغراق الدائم التدفق والاتساع الذى لم يفلت منه أحــد إلاّ نادر النادر !!
لقد تفاقمت في أيامنا متاعب البشر بتزايد أعدادهم التي فاقت تصور كل من سبقونا ، وتفاقمت معها الاختناقات والآلام نتيجة اختلال التوازن الأولى بين المواليد والوفيات ، وتفجرت صراعات وصلت إلى حد القوت والغذاء ، واتسعت الأخطار والأوضار إلى حد تعريض البشرية للخطر والهلاك ! .. ولم تعد للآدمي وسط هذا الأتون إلاّ بوصلة وعيه الذى قد تضلله سيئات العادات والأفكار والاعتقادات ! هذا الوعى هو صفحة رؤية الآدمي لطريقه ، عليه أن يستخلصه ويقطره وينميه ليمتعه ببصيرة نافذة وقدرة خالصة على تعمق الأشياء والاهتداء إلى الحق والصواب !