مذهب النشوء والارتقاء بين الغرب والشرق

مذهب النشوء والارتقاء بين الغرب والشرق

نشر بجريدة الشروق الخميس 8/4/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

حين برز مذهب النشوء والارتقاء، أثار ثورة عاصفة قوبل بها في الغرب، مشفوعة بحملات الاستنكار والتكفير التي شُنَّت في الدوائر الدينية، ورغم مرور أكثر من قرن على إعلان هذا المذهب، إلاَّ أن هذه الحملات لا تزال مشنونة عليه في البلاد الغربية، وهي شبيهة بما قوبل به في بلادنا الشرقية حين وصل إليها.

إلاَّ أن الباحثين الدينيين، قد عدلوا تدريجيًّا عن التحريم بقوة القانون إلى مناقشة المذهب بالبراهين العلمية.

أخذ فريق منهم في تفسير المذهب بالمعنى الذي يوافق الروايات الدينية بمعانيها الرمزية، وأخذ الفريق الآخر في إنكاره بالأدلة العلمية التي استند إليها العلماء ولا يزالون يستندون إليها إلى هذه الأيام.

صدر بمناسبة الاحتفال بمرور ستين سنة على إعلان المذهـب، كتـاب « الأستاذ ث. ب. بيشوب » وسماه « النشوء منتقدًا »، وهو كتاب يشير الأستاذ العقاد إلى أنه من كتب البحث العلمي على الطريقة الدينية، انتقد فيه هذا المذهب، وأورد أنه ليس في السجلات الجيولوجية دليل ولا قرينة تؤيد القول بتطور الإنسـان مـن نـوع آخـر، كذلك لا يوجد دليل يؤيد تحوّل الأنواع في عالم الحيوان أو عالم النبات، أما تشابه الأجنة الذى يتخذه بعض النشوئيين دليلاً على التشابه القديم بين أنواع الحيوانات فإنه دليل مكذوب.

ولم يدَّع بيشوب دليلاً علميًّا للنشوئيين، إلاَّ وتعقبه بالتفنيد، وأورد أنه لا يوجد دليل على هذا التطور يقبله العالم النشوئي الأمين.

وقد قوبل مذهب النشوء باعتراض شديد بين علماء الطبيعة الذين ناقشوه بالأدلة العلمية، وطلبوا من دعاته دليلاً محسوسًا على فعل الانتخاب الطبيعي في تحول الأنواع، ولا سيما الإنسان.

وبقيت هذه العقدة، عصية الحل على القائلين بالتحول النوعي إلى الآن، فلم يتقدم أحد من النشوئيين عند الاحتفال (1958) بذكرى صدور كتاب أصل الأنواع ـ بدليل حاسم يدفع شكوك المترددين في قبول نظرية تحول الأنواع !.

وقد كان رد فعل مذهب التطور ـ شديدًا في الشرق العربي، بين رواد الفكر من المسلمين ومن المسيحيين، ومن أهل السنة والشيعة، ومن أتباع الكنيسة الشرقية والغربية في العالم العربى.

وناقش الأستاذ العقاد آراء السيد جمال الدين الأفغاني من أئمة المصلحين من أهل السنة في كتابه « الرد على الدهريين »، وبعده بنحو ثلاثين سنة، ظهر كتاب « نقد فلسفة دارون » للشيخ « محمد رضا »، وهو من علماء الشيعة، تحرى النظرية في مجموعة وافية من مراجع مذهب النشوء العربية والإفرنجية، ثم ألف كتابه في نقد فلسفة دارون، ولم يتطرق إلى اعتبار مذهب النشوء إلحادًا، لأنه لا يقتضى إنكار الخالق، ولكنه طفق يناقش تفسيرات دارون والنشوئيين، وينقدها ويورد ما يفندها.

ثم إنه بعد أن ناقش قرينة الشبه الظاهر بين الإنسان والقرد، مضى يناقش القرائن الأخرى التي يستند إليها النشوئيون للقول بتحول الأنواع وتحول النوع الإنساني من بينها، عن أصله المشترك بينه وبين الفقاريات العليا، وأفادته مطالعاته المتفرقة لمراجع المذهب.. فلم يخطئ مواضع الحجة الواقعية، وفند القرائن بمنطق متين، ثم انتهي إلى أن المذهب كله ناقص الإسناد لا توجد فيه حجة قاطعة غير قرائن مردودة.

وطفق الأستاذ العقاد يراجع « المكتبة النشوئية » في الشرق العربي، والاهتمام بمراجعة المذهب بين أتباع الكنائس الكاثوليكية والإنجيلية، وعلماء الطبيعة المسيحيين ممن أنكروا المذهب استنادًا إلى الأدلة العلمية، وقد اختار الأستـاذ العقـاد جانبًا مـن هـذه الآراء ليعرضها في صبر طويل، منها ما أوره الدكتور حليم عطية سوريال في كتابه: « تصدع مذهب دارون والإثبات العلمى لعقيدة الخلق »، نبه فيه إلى خطأ اعتقاد البعض أن إنكار مذهب النشوء مقصور على رجال الدين، فقد رفضه أيضًا كبار العلماء الطبيعيين.

ويقفي الأستاذ العقاد بأن المبادرة إلى إنكار المذهب باسم الدين، فيه تعجل على اعتبار أن هناك مسائل لا تزال قيد البحث، ويجوز أن يسفر البحث عن إثباتها أو نفيها.

ثم يختم هذا المبحث متسائلاً: هل يصيب الذين يحرّمون باسم الإسلام مذهب النشوئيين المؤمنين بالخالق ؟ ويجيب بأنه لا يخالجه شك في خلو كتاب الإسلام مما يوجب القول بتحريم هذا المذهب.. فقد يثبت غدًا أن المذهب صحيح كله أو باطل كله أو يثبت أن بعضه صحيح وبعضه باطل، ولكن كتاب الإسلام لا يصد عن سبيل العلم في أية وجهة من هذه الوجهات.

الدين ومذهب دارون

يرى الأستاذ العقاد، كذلك الأستاذ سلامة موسى الذى كان ميالاً بشدة إلى هذا المذهب، أنه ليس فيه ما يعتبر بذاته سببًا للإلحاد أو إنكار الخالق، أو القول بخلو الكون من دلائل القصد والتدبير، وقد نسب القول بنشأة الأنواع من أثر الانتخاب الطبيعى والانتخاب الجنسى إلى عالِمين كبيرين هما شارلز دارون وألفريد والاس، ولم يكن أحد منهما منكرًا لوجود الله، وقد عاش دارون بقية حياته مؤمنًا بأن مذهبه لا يقتضى من العقل أن ينفي وجود الله، ولا أن يمس عقائد المؤمنين بوجوده.

أما « ألفريد والاس »، فقد كان مؤمنًا قوى الإيمان بوجود الله، وكانت مراقبته لعوامل الطبيعة سببًا لتصديقه بالمعجزات وخوارق العادات.

*   *   *

ومن المفكرين والعلماء فيما يورد الأستاذ العقاد ـ من كان يجعل التطور أساسًا لعقيدته الروحية أو الفكرية، وأشهر هؤلاء من فلاسفة القرن العشرين « برجسون » الفرنسى

و« هويتهد » الإنجليزى، ويكثر بين العلماء الطبيعيين من يعتبرون التطور دليلاً على النظام، ويعتبرون النظام دليلاً على وجود الخالق.

ولكن ليس هذا هو حال جميع علماء الطبيعة، وحجة المفكرين منهم في الإنكار أن العقيدة الدينية تقوم على الخوارق والمعجزات، وأنه لا سبيل إلى التوفيق بين عقيدة تقوم على خرق قوانين الطبيعة وبين علم يقوم على تفسير الكائنات بما تقتضيه هذه القوانين.

وقد حدث مؤخرًا بعد وفاة الأستاذ العقاد أن قام أحد علماء الأزهر الدكتور عبد الصبور شاهين بمحاولة لإزالة ما اعتقد أنه لا يتفق بين العقيدة الدينية ونظرية التطور وأصل الأنواع , فضلاً عن الاكتشافات التي أثبتت وجود هياكل عظمية بشرية ترجع لآلاف بل لملايين السنين , فوضع كتابًا بعنوان « أبى آدم » أثار بدوره ضجة كبرى.

ذلك أن فريقًا من العلماء الأمريكيين في أصول الجنس البشرى، أعلنوا أنهم توصلوا إلى هيكل عظمى بشرى لإثيوبية مضى عليه حوالى 4.4 مليون سنة، فيما يعد أقدم هيكل بشرى أمكن الوصول إليه، وأطلق عليه فريق البحث ــ اسم « أردى ».

وأعلن الفريق البحثى، وهو مـن جامعتى كين ستيت وكاليفورنيا، في تقريـر نشرتـه مجلـة «Science »، أن الكشف يسقط نظرية دارون التي أثارت ضجة هائلة منذ ظهورها في أخريات القرن قبل الماضى، فالهيكل البشرى المكتشف واحد من أسلاف البشر القدامى يرجع إلى أكثر من أربعة ملايين سنة، وأقدم بنحو مليـون سنـة من هيكل « لوسى » التي كانت أحد أهم الأصول البشرية المعروفة. أما هيكل « أردى » المكتشف حديثًا، فهو لأنثى قيل إنها بطول 120 سم، وأنه وإن كان الرأس يشبه رأس القرد، إلاّ أن تجويف الحوض لديها يظهر أنها كانت تسير منتصبة كالبشر لا منحنية على مفاصل الأصابع كالشمبانزى والغوريلا !

فهل أسقط هذا الكشف نظرية دارون في النشوء والتطور والارتقاء، وأصل الأنواع ؟!

زر الذهاب إلى الأعلى