محمد فريد شهيد الوطنية الذي لاقى الجحود والنكران (10)
من تراب الطريق ( 1266 )
بقلم/ الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين رئيس اتحاد المحامين العرب
نشر بجريدة المال الثلاثاء 22/2/2022
فى رائعته « صفحات من تاريخ مصر » ، يتحدث الأستاذ يحيى حقى عـن ثورة 1919 ، بأنها فتحت صفحة جديدة فى حياة مصر طوت أشياءً فرحنا باختفائها « كالنزاع الطائفى » وأشياء أخرى عزّ علينا طيها وحزت فى قلوبنا ، ولكننا قبلنا هذا الطى بدون مناقشة بدافع التحمس للثورة ، وعذرها بأنه لا وقت لديها لتنتقى ، ولكنه يتوقف ليضرب المثل بما جرى لمحمد فريد ، وعبارة « ما جرى » موجـودة ـ فيما يقول ـ فى كل البكائيات الشعبية .
إذا كان مسلك الثورة الوطنية مع الزعيم الوطنى محمد فريد ، صاحب هذا السجل العريض الحافل الذى مررنا بموجز لبعضه ، والذى تنازل عن الجاه والثراء وقَبِل الفقر وتحمّل السجن والنفى من أجل وطنه ـ دافع عن قضيته خير دفاع ، وتمسك بحقوقها جميعًا ، ورفض أن تكون محل مساومة ، لا مساس ولو ببذرة منها ،إنه يعيش فى الغربة يحلم ويأمل أن يجىء اليوم الذى تنتفض فيه مصر مطالبةً بحقوقها ، وأخيرًا جاء هذا اليوم ، فإذا بأمله ينهدم ساعة أن يتجسد ، فتتجاهله الثورة تجاهلاً تامًّا ، بل الأعجب والأدهى أنه مدّ إليها يده مهنئًا ومؤيدًا ، فتركتها معلقةً فى الهواء ، مع أنها قبلت بعض أعضاء الحزب الوطنى ، فكيف بزعيمه ؟! هل بعد هذا عقوق ؟!
العقوق أشد إيلامًا إذا جاء من الصديق الذى خدمته ، بيد أنه أشد إيلامًا ووجعًا إذا جاء من الوطن الذى ضحيت من أجله . وليس المقصود نسبة الجحود إلى الوطن ، فالوطن كيان رمزى ، يعبر عن إرادته ويجسدها سياسةً وأفعالاً ـ القائمون على سدة الحكم أو الأمر فيه ، وإنما قصد الأستاذ يحيى حقى بذلك الجحود ــ قيادة ثورة 1919 تحديدًا ، لذلك يضيف أنه إلى اليوم يتصور « مرارة » محمد فريد فى الغربة بعد الثورة ، إذا ارتجف عيانًا من رجفة البرد فلا شك أنه كان يرتجف كتيمى من الشعور بالوحدة ، بوقوفه كاللوح كما تقول العامة ، أو كالمتفرج وموكب الثورة يمر أمامه ، دون أن يتذكره أو يلتفت إليه أحد ، ودون أن يفكر أحد فى أنهم فى حاجة إليه ، أو يتذكر على الأقل أنه فى منفى اضطرارى اضطره إليه محاكمة جائرة وحكم جائر ، فيعلن أن وطنه يرحب بعودته ، بل إن أحدًا لم يلق عليه السلام ، فإذا كان انضمامه إلى ركب الثورة غير متاح فعلى الأقل يُطلب منه الرأى والنصيحة ، فإن له خبرة عريضة بالقضية ، وبالموقف الدولى ، وله اتصالات كثيرة بالأحزاب وأقطاب السياسة فى أوروبا ، حتى هذا وما دونه لم يحدث ؛ يتصوره الأستاذ يحيى حقى يسأل نفسه : ما ذنبى ؟ أين تقصيرى ؟ ألم يبق عندى ذرة من نفع ؟ هل مت وأنا حىّ ؟. لو كنت مكانه ـ يقول يحيى حقى ـ لتحطمت ، ولكن قدر له أن يعيش شهورًا ليتجرع كأس المرارة حتى الثمالة بعيدًا عن وطنه الذى ضحّى بكل شىء من أجله !
ويضيف يحيى حقى : « حرصت على أن أزور حجرته الصغيرة فى «خان سوريا» ، كنت أريد أن أتشمم جو الوحدة والفقر الذى كان يعيش فيه ، إلى اليوم أتصور بألم مشهد وفاته فى الغربة ، وحيدًا ، منقطعًا ، فقيرًا ، مهملاً ، منبوذًا ، ليس بجانبه أحد من أهله ، وقبل أن أتركه أقول إنه حتى بعد وفاته لم يكن نقل جثمانه إلى مصر من عمل الشعب بل من تبرع تاجر فى طنطا ، كأنما لابد للعقوق أن يمضى إلى غايته ، أن يلاحقه حيًّا
وميتا » .