مبادئ التشريع في المسيحية بقانون الأحوال الشخصية
في ضوء المادة الثالثة من الدستور وفقاً لحكم المحكمة الدستورية العليا في الدعوى رقم 175 لسنة 30 قضائية "دستورية" جلسة 8 مايو 2021
إعداد : نادر الصيرفي – المحامي ماجستير وباحث دكتوراه في القانون الخاص
تمهيد:
أفرد الدستور المصري في المادة الثالثة منه مادة تتعلق بتشريعات المسيحيين المصريين في الأحوال الشخصية، والتي تنص على أن “مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية ”
وعلى أثر استحداث هذه المادة، ثارت عدة اشكاليات تتعلق بمدى امكانية حصول التعارض بينها وبين المادة الثانية من الدستور، والتي اعتبرت مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع في جميع قوانين الدولة تأسيساً على مبدأ المساواة أمام القانون، ومدى انعاكس تلك المادة على اعادة تنظيم مسائل الأحوال الشخصية للمسيحيين، في مسائل المواريث والوصايا والأهلية، والتبني؟.
وحيث أن تطبيق شريعة الأقباط الأرثوذكس الصادرة عام 1938 مرهونة في حالة اتحاد الملة والطائفة على عدم مخالفة النظام العام في الأحوال الشخصية، طبقاً لصراحة المادة الثالثة اصدار من القانون رقم (1) لسنة 2000 بتنظيم بعض اجراءات التقاضي في الأحوال الشخصية، ذلك لأن المرجع في حالة عدم وجود نص في الشريعة الخاصة هو الأحتكام لأرجح الأقوال في مذهب الإمام أبي حنيفة، فهل يتغير مفهوم النظام العام في الأحوال الشخصية تبعاً لصيرورة تشريعات المسيحيين في حكم القواعد القانونية الآمرة؟
وأخيراً ، يثور التساؤل حول مدى لزوم اتحاد شرائع المصريين على قانوناً موحداً وتراجع مفهوم تعدد الطوائف والملل في تشريعات الأحوال الشخصية، حتى يمكن تحقيق قصد المشرع الدستوري في المادة الثالثة من الدستور ؟ وما هو نطاق وشروط هذه الوحدة؟ وهل هي مطلقة أم مقيدة؟ ومدى الاعتداد بتغيير الملة في اقامة دعوى اثبات الطلاق ودعوى الخلع ؟
وقد حسم الحكم الدستوري سالف البيان غالبية تلك الاشكاليات كونه أول حكم دستوري صدر في ضوء المادة الثالثة من الدستور، مقرراً دستورية نص المادة (151) من لائحة الأقباط الأرثوذكس، والتي تعطي الحق للزوج المسيحي المعسر في رفع دعوى نفقة زوجية على زوجته القادرة على الكسب، بالمخالفة لمبادئ الشريعة الإسلامية، على سند من القول بعدم جواز التحدي بمخالفة الشريعة الإسلامية في هذا الوجه، وذلك للأسباب التالية، والتي تعد مبادئ التشريع في الأحوال الشخصية للمصريين المسيحيين عند صدور قانونهم الموحد :
المبدأ الأول : مراعاة التشريع طبيعة الزواج المسيحي كونه نظاماً دينياً وسراً مقدساً :
أشار الحكم سالف البيان إلى الطبيعة الخاصة بالزواج المسيحي، الذي لا يتم إلا وفقاً للمراسيم الدينية، وهو عقد أو اتفاق بين رجل وامرأة بقصد تكوين أسرة والتعاون في شئون الحياة، على نحو أبدي لا مؤقت، يكفل الطرفان خلاله كل منهما الآخر في السراء والضراء.
ويبني على ذلك أنه يتعين على المشرع عند تشريع القانون المرتقب أن تنسجم قواعده مع أسس الحياة الزوجية في الشريعة المسيحية، ويكون التشريع اللاحق متمشياً مع مقتضيات التكافل بين الزوجين، ليكون كل منهما سنداً للأخر، وداعماً له، في اطار علاقتهما الأبدية المقدسة، وهذا ما استلزمه الدستور القائم في المادة (10) منه المتعلقة بالأسرة المصرية كونها أساساً للمجتمع قوامها الدين والأخلاق والوطنية.
المبدأ الثاني : مراعات التشريع لمبدأ المساواة أمام القانون بين جميع المواطنين – مسليمين ومسيحيين – طبقاً لنص المادتين ( 4 ، 35 ) من الدستور القائم مع مراعاة التفاوت في المراكز القانونية :
وأوضح الحكم سالف البيان أن المساواة بين المواطنين في الحقوق والحريات لا تقصر على الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور، بل أنها تنسحب أيضاً للحقوق والحريات التي ينظمها المشرع بقوانين خاصة، ومنها تشريعات المسيحيين في أحوالهم الشخصية.
فالأصل في أي تنظيم تشريعي – على ماجرى عليه قضاء هذه المحكمة – أن يكون منطوياً على تقسيم أو تصنيف أو تمييز من خلال الأعباء التي يلقيها على البعض، أو الحقوق التي يكفلها لفئة دون غيرها. ومع ذلك فإن اتفاق هذا التنظيم مع أحكام الدستور يفترض ألا تنفصل النصوص القانونية التي نظم بها المشرع موضوعاً محدداً عن أهدافها.
وأرسى هذا الحكم مبدأ هام، وهو التمييز المبرر دستورياً، ومؤدى هذا التمييز أن كفالة المساواة بين المواطنين في الحقوق والحريات العامة لا يعني أن تعامل فئاتهم على ما بينها من تفاوت في مراكزهم القانونية معاملة قانونية متكافئة.
المبدأ الثالث : مراعاة التشريع لمبدأ حرية الاعتقاد المطلقة المنصوص عليها في المادة (64) من الدستور وذلك بالنسبة للمسيحيين كوحدة واحدة وبطوائفهم الدينية :
وقد أكد الحكم – في ظل التشريع القائم الذي يقوم على تعدد الطوائف – على دستورية خضوع كل طائفة مسيحية لتشريعات مغايرة أو تنظيمات موازية لذات المسألة الموضوعية، واعتبر أن التعدد التشريعي لا يعني بالضرورة خروجه على أحكام الدستور.
لذلك لا يجوز للمشرع أن يخالف الأمور قاطعة الثبوت في الشريعة المسيحية المتعلقة بجوهر عقيدتهم، طالما نهض ذلك على أسباب موضوعية تبرره.
بناء على ما سبق ينشأ الاعتقاد بأن الأمر بالنسبة للتشريع المرتقب سوف يخضع للمادة (3) من الدستور القائم، احتراماً لحرية المسيحيين في الاعتقاد، مستلزماً تطبيقها دون غيرها في كل ما يتصل بها من أمور موضوعية.
ومن تلك الأمور أنه يمكن أن يستقل المسيحيين بنظام خاص للمواريث من الناحية الموضوعية المتعلقة بتعيين الورثة وتحديد أنصبتهم وانتقال التركة لهم، دون العقوبات المدنية أو الجنائية، ودون المسائل المتعلقة بجرد أو حصر التركة.
ومن تلك الأمور الموضوعية أيضاً امكانية الغاء دعاوى اثبات الطلاق والخلع التي تقوم اختلاف الملة والطائفة بشرط أن يعتبر التشريع المسيحيين أصحاب مركز قانوني واحد على اختلاف طوائفهم، مع الأخذ في الاعتبار الاستثناءات المقررة لكل قاعدة.
ولا تثريب على المشرع إن هو قرر سلطة كل طائفة مسيحية في تقرير قواعدها أو شروطها لاتمام مراسيم الزواج بعد التطليق، بمعنى أنه من الجائز تشريع أسباب موحدة للتطليق يتم تطبيقها على جميع المسيحيين، ثم يترك الأمر لكل كنيسة في الموافقة أو عدم الموافقة على عقد الزواج الثاني طبقاً لشريعتها.
المبدأ الرابع : في علاقة الشريعة الإسلامية بتشريعات المسيحيين في الأحوال الشخصية، ومفهوم النظام العام :
تعرض الحكم سالف البيان لمسألة منطقية، وهي أن الرقابة على دستورية القوانين واللوائح، من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية أنما تخضع للدستور دون غيره.
وبالنظر إلى دستور 1971 المعطل، نجد أن حكم مبدأ جعل مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع قد تقرر في 22/5/1980 ، وقد خلا ذلك الدستور الملغي من نص مماثل للمادة الثالثة المقررة بالدستور القائم لسنة 2014 ، إلا أن الدستور الجديد قد أضاف المادة الثانية المتعلقة بالشريعة الإسلامية كما هي.
والتساؤل الذي يطرح نفسه هو : هل يمكن للمحاكم تطبيق المادة الثالثة من الدستور؟ أجيب على ذلك بالنفي، ذلك لأن مواد الدستور لا تصلح في ذاتها للتطبيق المباشر، فهي مواد موجهة للبرلمان المنوط بتشريع القوانين، الأمر الذي يوحي بأن لا بديل لتطبيق القوانين المسيحية في الأحوال الشخصية إلا بعد صدور القانون المرتقب.
وملامح التشريع في ذلك القانون المرتقب تقوم على مراعاة الأصول الكلية للشريعة الإسلامية، بحيث لا يتنافر أي نص مع مبادئها، ويكفي في هذا الشأن أن لا يعارض النص المستحدث مبادئ الشريعة الاسلامية، ومع ذلك فقد فرض الدستور قيدأ أخر على المشرع بجانب القيد المتعلق بالشريعة الإسلامية، وهو تشريع المادة الثالثة من الدستور، والتي يستحيل تطبيقها الآن لمخالفتها للنظام العام المستمد من الشريعة الإسلامية، المنصوص عليه بالمادة الثالثة من مواد اصدار القانون رقم ( 1 ) لسنة 2000
يبنى على ذلك، حصول تطور وظيفي في فكرة النظام العام يقوم على أساس المساواة التشريعية، ينتج عنه الارتقاء بلوائح الأحوال الشخصية للمسيحيين على اختلاف طوائفهم في شكلها العضوي بصيرورتها قانونا موحداً، لا يستند إلا للقواعد الموضوعية التي ينظمها المشرع المبينة على مبادئ الشريعة المسيحية، واتفاقها مع الشريعة الإسلامية في المسائل الإجرائية التي لا تمس جوهر العقيدة المسيحية، بل أن المصلحة العامة تقتضي أن تتفق التشريعات بشأنها بالنسبة لأبناء الوطن الواحد، كما في حالات : تحديد سن الزواج أو الحضانة، أو تنظيم رؤية وانتقال الأبناء، المسائل المتعلقة بالمنع من السفر ….. إلخ.