مافيا الابتزاز الرقمي عبر الدارك ويب
مقال بقلم الدكتور/ أشرف نجيب الدريني
هل يمكن أن يكون الهاتف الذكي أداة قتل معنوي؟ وهل أصبحت صورنا الخاصة، ورسائلنا الشخصية، وأحاديثنا العابرة وقودًا لمجرمين لا يعرفون الرحمة؟ من أين يأتي هؤلاء؟ ومَن يمدهم بالسلاح؟ وكيف ينجحون في بسط نفوذهم دون “طلقة واحدة”، في عالم يفيض بالحسابات لكنه يفتقر إلى الحساب؟ وهل يستطيع القانون أن ينتصر للضحية حين تكون ساحة الجريمة افتراضية، ومسرح الجريمة خيطًا من “بيكسلات” خادعة؟ هل نحن أمام جريمة معلوماتية، أم أمام “إرهاب نفسي ناعم” يُمارس في غرف مظلمة وبأدوات تكنولوجية متطورة؟ أسئلة مفزعة ومُقلقة لكنها واقعية، تفرض نفسها مع تنامي جرائم الابتزاز الرقمي، تلك الجرائم التي تستبيح الكرامة، وتستغل الحياء، وتبني مجدها على ألم الآخرين، في ظل فراغ تشريعي أحيانًا، وبطء استجابة أحيانًا أخرى، وغفلة اجتماعية متراكمة.
تتشكل مافيا الابتزاز الرقمي من أفراد أو شبكات محترفة تتغذى على الاختراق، وتعيش على التهديد، وتُتاجر بما هو خاص وسري. في البداية تكون الضحية مجرد حساب رقمي، صورة، أو محادثة، ثم تُختزل إرادتها في رسالة تهديد، وتُسلب كرامتها في مطالب خبيثة، إما بدفع مبالغ مالية، أو تنفيذ أفعال مخزية، أو البقاء تحت قبضة الخوف والتسلط. وتتسع دائرة الألم حين تعجز الضحية عن الإفصاح خوفًا من الفضيحة أو الوصمة أو انعدام الثقة في جهات الحماية، فتسقط فريسة سهلة في دوامة الخضوع والخذلان.
وما كان لهذه الجريمة أن تبلغ هذا الاتساع لولا تواطؤ صامت من بيئة رقمية تشجع السرعة وتُهمل الأمان. في مقدمة هذه البيئة تأتي وسائل التواصل الاجتماعي، التي تحوّلت – عن قصد أو غفلة – إلى مرتع خصب لجرائم الابتزاز. فمنصات مثل فيسبوك، إنستجرام، سناب شات، تيك توك، وتطبيقات المراسلة الفورية، وفّرت فضاءً رحبًا لتداول الصور والمقاطع والمعلومات الشخصية، لكنها قصّرت كثيرًا في تأمين هذا الفضاء. فثغرات الخصوصية، والإعدادات المعقدة، والسياسات المتساهلة مع الحسابات الوهمية، فتحت الباب أمام المجرمين ليصطادوا ضحاياهم من خلال حيل ذكية، وروابط خبيثة، أو صداقات مزيفة.
بل أكثر من ذلك، أسهمت الخوارزميات المستخدمة في هذه المنصات – والتي تُصمَّم بناءً على الجذب والتفاعل – في زيادة تعرض المستخدمين للغرباء، خاصة من خلال “القصص العامة” أو ميزة “اقتراحات الأصدقاء” أو “المحتوى الشائع”، فاختلط الحابل بالنابل، وتراجعت الحدود بين ما هو عام وخاص، ليصبح كل شيء متاحًا، وكل شخص هدفًا محتملاً. وفي ظل هذا التداخل، وجدت مافيا الابتزاز الرقمي في هذه المنصات سوقًا ذهبيًا، ليس فقط لاصطياد الضحايا، بل أيضًا لبيع الصور والفيديوهات على شبكات “الدارك ويب”، حيث يُستغل المحتوى المبتز في الاتجار” الجنسي الرقمي”، أو في تحقيق أرباح من خلال المساومة المتكررة، أو الضغط النفسي المستمر.
هذه البيئة الفاسدة أنتجت ضحايا في الظل. ضحايا يخشون البوح، ويُعانون بصمت، وينهارون ببطء. وقد سجلت مراكز الدعم النفسي في العديد من الدول العربية تزايدًا ملحوظًا في حالات الاكتئاب والانتحار المرتبطة بالابتزاز الرقمي، خاصة في صفوف المراهقين والفتيات. وما يزيد من حدة الأزمة أن بعض الأسر لا تتعامل مع الضحية بوصفها مستهدفة، بل تعاملها كمن جلب العار، مما يضاعف من آلامها، ويقودها إلى مصائر مأساوية.
ولم تبقَ التشريعات العربية صامتة. ففي مصر، جاء القانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات ليمثل أول محاولة جادة لتقنين هذا النوع من الجرائم، فنص في مادته (25) على تجريم المساس بحرمة الحياة الخاصة من خلال الإنترنت، وشدد العقوبة حال اقتران الفعل بالابتزاز أو التهديد. ومع ذلك، تظل الحاجة ماسة إلى تحديث هذا القانون بما يواكب تطور أساليب الجريمة، خاصة مع تصاعد جرائم الذكاء الاصطناعي والتزييف العميق.
أما في دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد تميزت بتشريعات دقيقة ومرنة، إذ نص القانون الاتحادي رقم 5 لسنة 2012 على عقوبات صارمة بحق من يستخدم شبكة معلوماتية في التهديد أو الإساءة، وغلّظ العقوبة حال استخدام الصور الخاصة أو المقاطع الحميمة، حتى وإن تم الحصول عليها برضا سابق. وتفردت الإمارات بإطلاق منصات رقمية متخصصة للإبلاغ، تتعاون فيها الجهات الأمنية مع شركات التكنولوجيا الكبرى لضمان إزالة المحتوى بسرعة قياسية، وحماية هوية الضحية.
إلا أن النص القانوني وحده لا يكفي. لا بُد من أن يكون بجانبه دعم نفسي فوري، واحتواء اجتماعي راقٍ، وآليات واضحة للتبليغ والمساعدة. يجب أن يشعر الضحية بالأمان، لا بالخجل. بالثقة، لا بالخوف. وتحتاج الجهات الرسمية إلى تدريب فرق متخصصة في الدعم “النفسي القانوني”، ترافق الضحية من لحظة التبليغ حتى إنهاء المحاكمة، مع تقديم الحماية الرقمية لها، وضمان محو آثار الجريمة من الفضاء الإلكتروني.
إن مافيا الابتزاز الرقمي لا تكتفي بتمزيق الخصوصية، بل تُحطم المعنويات، وتُصيب الضحية بجراح خفية. فالصورة التي تُهدَّد بها الضحية ليست مجرد “ملف رقمي”، بل هي كرامة، وحياة، وأمان داخلي. وإذا لم يستطع القانون أن يحمي تلك الكرامة، فإنه يخذل جوهر العدالة.
ولعل من أنجع سُبل المواجهة المستقبلية هو تطوير اتفاقيات إقليمية لمكافحة هذه الظاهرة، تجمع بين الدول العربية، وتشجع التعاون التقني والاستخباراتي والتوعوي، وتُلزم المنصات الرقمية الكبرى بتعقب الحسابات المبتزة وحذفها فورًا، وتفرض عليها مسؤولية قانونية عند التهاون أو التأخير في حماية المستخدمين. كما يُعد تدريس مادة “الأمان الرقمي” في المدارس والجامعات مدخلًا حضاريًا لمناعة قانونية وأخلاقية مبكرة ضد هذه الآفة.
وإلى أن يتحقق كل ذلك، يبقى الأمل في كلمة تُقال للضحية في لحظة ضعف: “أنت لست وحدك”. ويبقى دورنا كقانونيين، ومربين، وإعلاميين، ومواطنين، أن نحاصر هذه المافيا لا بالتنديد، بل بالتجريم، والمساءلة، والدعم، والاحتضان، حتى لا يبقى في هذا العالم من يظن أن الصورة أقوى من الكرامة، أو أن التهديد أقوى من القانون. والله من وراء القصد.