ماذا تدرك العقول ؟ وماذا تعي ؟ (5)
من تراب الطريق (962)
ماذا تدرك العقول ؟
وماذا تعي ؟ (5)
نشر بجريدة المال الأحد 25/10/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
اعتيادنا على الاقتناع بأمر وأساليب وقواعد ألفنا ترديدها والركون إليها والثقة فيها والأخذ بها بغير تحفظ أو فحص أو مناقشة لأننا بتنا نؤمن بها .. هذا الاعتياد السائد يخمد دون أن ندرى ـ نشاط العقل ويضيق مساحة عالمه لدى كل منا ، ويثبت في الوجدان صدق ما نؤمن به ، برغم أنه في الواقع باطل ولا أصل له ! وربما يكون هذا عودة بدائية للراحة والكسل عقب كل تيقظ وكد واجتهاد .. تطول هذه العودة لسعة الخمول والسطحية براحتها ويسرها وانتشارها السريع في الجماعة لبساطتها وسهولتها في الإقناع العام .. ثم إن الخاصة والمتعلمين قلما يميلون إلى التدقيق والتقصي إلا في الأمور التي تعنيهم فقط .. فالاسترخاء أو الخمول أو السخط العالمي الآن ـ ليس غريبًا على البشر إلاّ في سعته وعمقه غير المسبوقين ! وهذا الدوار الغاشم اليائس الذي نحس فيه بفقد الأمل والجدوى، قد زاد قسوة وغرابة لشموله لكل الجماعات البشرية مع انتشار مواد وأدوات الدمار الشامل .. فبأيدينا جميعًا وكبريائنا واغترارنا بأنفسنا وما تحقق في زمننا ـ قد مجدنا ذلك كله، وادخرناه حرصًا على المنزلة والهيبة والاستعداد للدفاع أو الهجوم .. غير مبالين بالحربين العالميتين السابقتين وجرائرهما ـ وما تعرض له العالم بأسره خلالهما من فناء !!
وراء ذلك كله ـ قصر الفهم والرؤية والنظر والتأمل للأحداث والأشياء، وطول الجري وراء التغيير والتبديل في الرغبات والشهوات والأماني والأهواء .. فنحن منذ أقدم القدم، يؤثر معظمنا الفروع الطارئة على الأصول الباقية، ونتعلق تعلق الجوعان بالماديات التي لا أول لها ولا آخر في اجتذاب الحواس والعواطف بغير حساب .. ولا نكف قط عن التلهف على الحصول على ما يستحدث من كل لون ونوع، مدفوعين بالطمع في المال ومحاولات الوصول إليه بما في مقدور كل منا بنفسه أو بمن يعنيه .. فدنيانا منذ القدم إلى اليوم دنيا مال في الأغلب الأعم .. ودائمًا يحرص عليها الغنى بكل ما في طاقاته وحيله، ويتمناها غيره ممن لا حصر لهم ـ ما عاشوا إلى آخر العمر !
فكل شيء في عالمنا الآن قوامه المال وأساسه المال، تراه حاضرًا في أي غرض أو غاية أو حاجة كائنة ما كانت تراها العين أو تسمعها الأذن أو تلمسها اليد أو يذوقها الفم أو يستخدمها الجسم الآدمي .. كل ذلك هو مال في واقعه .. أو قائم على مال يتجه إلى مال .. إن انتهـى المال انتهت بشريتنا معه لا محالة !! .. فلم نعد نفكر في غيره ! .. ولا نقيم حياة الناس إلاّ على ما نسميه الاقتصاد العالمي والتجارة الخارجية والداخلية والبورصات العالمية للمحاصيل والصكوك والأوراق والعملات ثم المصارف والشركات وفروعها المنتشرة في العالم ومكاسبها وخسائرها وما تضخم منها أو انهار .. فلم يبق شىء غير المال في عقولنا ولغاتنا جميعًا، وفى معاملاتنا ومداولاتنا ومجتمعاتنا ومؤتمراتنا ومجالسنا، وفى يقظتنا بل ونومنا .. لا يوجد عند الغنى والفقير ما هو أغلى وأجدر بالاهتمام والترقب من تحركات المال .. هذه التحركات التي تدور وتعلن من دقيقة إلى أخرى صباح مساء في الصحف والإذاعات ـ صكوكًا وعملات ومحاصيل من حيث الأسعار وما يصعد منها وما ينخفض تبعا للأوقات والتيارات والمناسبات والمناورات !
وقلمًّا يكون لعامة البشر جمعية أو جمعيات تلم شملهم أو تجمع شتاتهم في اجتماعات حتمية الاجتماع والتداول والالتزام بالقرارات الصادرة من الأغلبية ـ اتفاقا أو اعتقادًا .. ولكن هذا النوع من الجمعيات غير قليل العدد لدى خاصة القوم إن كانوا متحضرين .. ومع ذلك ، فإن هذا النوع من الجمعيات بكل أشكالها منحصرة أهدافه في مصالحه ، وتفتقد الجماعات بعامة ، الحالية والسابقة ، والمتحضرة وغير المتحضرة ، رباطًا حقيقيًا صادقًا يجمعهم ويرعاهـم ويكلأ مصالحهـم بقرارات حقيقية فعلية ، لا شكلية ولا مظهرية ، تصدر بعد بحث ومناقشة وتمحيص ، ترتضيها الأغلبية لأنها تعبر عنهم .. وما الأحزاب السياسية التي نراها الآن وتتسمى نظم الدول باسمها ، ديمقراطية أو استبدادية ، رأسمالية أو شيوعية أو اشتراكية ، ما هي في الواقع إلاّ أوعية ، تتخذ أسماءً شكلية ، تضم عصبيات متسلطة بدعوى هذا المذهب أو ذاك ، وتذعن لها الناس تسليمًا أو خوفًا أو رهبةً أو انخداعًا ، وتجرى وراءها جرى المعصوب العينين أو الضرير دون أن تدرك أن عموم المنضوين ما هم في الواقع والحقيقة إلاّ مادة مقودة مستخدمة في أغراض ومصالح ذاتية قبل أي شىء آخر ، بلا التفات حقيقي مخلص وصادق ـ لمصالح واحتياجات الشعب اللاهي اليائس من امتلاك مقاديره !
لا تعرف العامة إلى اليوم كيف تجتاز ما تعانيه ، ولا كيف تعبر علنًا وتباعًا وباستمرار وإصرار ، عما تكابده رغم قبحه وجسامته ووطأته .. لا تملك إلاّ أن تهيج من وقت لآخر .. وقد تتملكها وتسيطر عليها رغبة التحطيم والإتلاف والتدمير ، أو الإيذاء العبثي ، لأنها لم تعد ترى في غير أسرتها الضيقة ، أي معالم حقيقية تورى بالإخاء وتكامل وتساند الأسرة الإنسانية تساندًا حقيقيًا صادقًا يجبر ضعف الضعيف ، ويساند المغبون ، ويكفكف حاجة وبؤس وتعاسة الفقير ، ويشمل العالم بقيم العدل والإخاء والرحمة والإنسانية !