ماذا تدرك العقول؟ وماذا تعي؟
بقلم : رجائي عطية نقيب المحامين
من تراب الطريق (958)
ماذا تدرك العقول ؟
وماذا تعى ؟ (1)
نشر بجريدة المال الاثنين 19/10/2020
ـــــ
عقول البشر مخازن .. فيها الصحيح والباطل، والجاد وغير الجاد، والنافع والضار .. تخزنها ذاكرة كل منا التى نحسها ونستخدمها ، ولكن لا نعرف أين هى يقينًا أو تخمينا .. قد يتشابه بعضها مع بعض لدى نفس الشخص أو لدى هذا أو ذاك من الأفراد ، لكن يستحيل أن تتطابق .. وهى تتسع وتقوى مع النمو والنضج ، وتضعف باستمرار مع التقدم فى السن إذا طال حتى تصل إلى غايتها فترتد إلى النقيض ، وتتماحى خطوطها ، سواء بالزهايمر وما يشابهه، أو بالشيخوخة الطاعنة التـى تحـدث عنهـا القرآن المجيد فقال : « وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا » ( الحج 5 ).
وما يتعلق بالذاكرة هو دائمًا ظنون .. يحاول صاحبها إبراز بعضها كما يحاول إخفاء البعض الآخر .. يخفى ما يرى إخفاءه سترًا عن الغير .. وكثيرًا ما لا يستطيع ستره مهما أراد ، وهو فى ذلك معرض للخطأ فى الحساب أو الإدراك أو الفهم !
وما يتعلق بمراحل الحياة لكل منا فى أطوار عمره ، من حيث وضعه ووظيفته فى مجتمعه وصلاته بالأقرباء أو الأصدقاء وأزمان الوداد والفتور بينهم وبينه ، واتصالاته بالزملاء والأتباع أو الرئاسات فى العمل أو فى المجتمع أو الجيرة أو العضوية .. كل ذلك أساسه بداية ونهاية نظرة كل منا إلى من ينظر إليه ومبدئه واعتقاده إن كان له مبدأ أو اعتقاد !
وأغلب الناس عامة، وخاصة فى أيام السلام والأمن والاعتدال والرواج العاقل ـ يراعون تلك الاحتمالات المتداولة التى لا تنقطع ، ويتحققون ويتدبرون دائمًا قبل أن ينفذوا ما ينفذونه .. حتى هذا قد يبدو فى أول أمره ناجحًا صحيحًا ، ثم ينقلب فى وقت آخر إلى ضده لاعتبارات لم تدخل من قبل فى الحسبان !
إن كلا منا يحيا حياة دائمة السير به نهارًا وليلاً مسافة عمره، يموت إن توقفت .. خلالها لا يشعر إلا أنه حىّ باق مع الدنيا الباقية معه بحسب أحواله وظروفه .. لا يبالى إلا باختفاء الأعزاء الذين ينسيه إياهم مرور الزمن .. فالمبالاة واختفاؤها وزوالها أو عدمها ـ أطوار أو أدوار بشرية . والشعور والزمن لا حساب لهما فى الطبيعة . وإحساس كل منا بحياته وهو دائمًا إحساس طاغ فريد خاص به هو .. لا يفرط فيه أحد إلاّ من ينتحر عامدًا ! .. وشىء مثل ذلك نشاهده لدى الحيوان .. لأن إصرار الحىّ على الحياة ضرورى لاستمرارها ـ فيما يبدو ـ لمعاونة بقاء وعمل أجهزتها اللازمة لها !
والبشر على هذه الأرض دائمًا جماعات صغيرة أو كبيرة فى حدود تزايدت إلى ما بلغته الآن من الضخامة التى نعرفها وصرنا نشكو منها الآن .. ولم يعرف البشر بيقين كيف وكم كان عدد هذه الجماعات فى بداية الخليقة، وماذا سهَّلت هذه الزيادة للخطوات التى خطتها البشرية البدائية التى كانت هى الأخرى توسيعًا فى إكثار وانتشار الجنس البشرى ! .. ويبدو أن هذا قد تم من قبل، وهو مازال يتم تحت عناية ووقاية وتمهيد وتوجيه إرادة علوية سامية أعلا وأبعد .. لا يمكن أن يعرفها أو يدركها البدائيون، وهم أقرب كثيرًا جدًّا فى ملكاتهم المحدودة التى كانوا يستعملونها وقتذاك ـ إلى ما كان يعيش عليها الحيوان ـ ولم يزل ـ حتى الآن !
هذه الإرادة العلوية السامية البالغة القدرة ، لم ولن تحجب أو تسحب عنايتها بمخلوقاتها .. هذه العناية التى هى أولاً وأخيرًا منها وإليها .. تمتد إلى الناس ، سواء من تمرد منهم وعاند وجحد وأنكر وتكبر ، أو من فطن وانتبه وأدرك قيمة تلك العناية الإلهية وعمقها واجتهد فى المحافظة على اتباعها اتباع المخلصين الصادقين .. فمصير المتمردين معروف لهم ولغيرهم إلاّ أن يتوبوا ، وجزاء المخلصين الصادقين لا ولن يضيع .. إن لم يدركهم فى هذه الدنيا، فهو مآلهم وثوابهم فى الآخرة !
والآدمى بعامة لا يحافظ على ما أعْطِى وهو كثير الكثير، فهو يرهق عينيه ويسد منخريه وأذنيه، ويجهد كفيه وقدميه ويعرضهما للكسر والخلع، ويربك معدته ويمرضها، ويضيق ويخنق رئتيه، ويملأ أمعاءه ويبطل مثانته .. وفوق وقبل ذلك كله يفسد نومه وصحوه، ويزدرى عقله ليبرز غروره وقدرته وسطوته واندفاعاته ورعوناته وحماقاته .. يفعل ذلك كيما يطيل ويمد ما كان ينبغى عليه أن يقصره ويحصره ما أمكن .. معظم ما يشغل يقظته وغفلته لغو وكذب لا يفطن إلى بعضه ـ إن فطن ! ـ إلاّ متأخرًا !