ليس كمثله شيء سبحانه المثل الأعلى

نشر بجريدة الوطن الجمعة 31 / 12 / 2021
ــــ
بقلم: الأستاذ/ رجائى عطية نقيب المحامين

يبدو الوعى ـ لدى المتأمل فيه ـ أنه نتف تشبه السحاب . نتف مدركة تتجمع وتتفرق بغير انقطاع ما دامت الأنا وحواسها فى حالة يقظة .
يقول علماء الاجتماع إن الإنسان حيوان عاقل ، وتسعة أعشار شقاء أو متاعب الآدمى ، مصدرها عدم اعترافه بهذه الحقيقة ، وبأن عقله وذكاءه ـ ميزتان أضيفتا إلى حيوانيته أولاً وأخيرًا ، لخدمتها خدمة أفضل أمتع وأكمل ـ مما تهيأ لسائر شركائها فى الحيوانية . لماذا ؟ ولماذا جاءت تلك الإضافة بذلك الحجم والسخاء الزائدين عن حاجات وظائف الحيوان ؟ الله تعالى وحده يعلم !! الواقع أن هذا الجانب الغريزى فى الآدمى لا يأخذ ولا يستعمل مما فى حقيبته العقلية الهائلة ـ إلاَّ أقل القليل . وهو يعيش ويموت ولا يكاد يستفيد منها بشىء ذى بال ـ فلماذا الكبرياء ؟!
ليس للخالق جل وعلا اسم ، لأنه سبحانه وتعالى ليس موضوعاً ولا محلاً ولا مُسَمّى للأسماء . واسم الله عـز وجل ، هو تذكره سبحانه وليس إلاّ تذكره من جانب المخلوق الآدمى الذى يذكره على قدر استطاعته الآدمية ، وعلى قدر إمكانه البشرى المحدود بحدود جزئية ، سواء من حيث وعيه أو فهمه أو إحساسه الذى يعبر عنـه بلغته البشرية . وهذا التذكر هو عن طريق تذكر قدرته سبحانه وتعالى وصفاته وآثاره وأفعاله المختلفة المعروفة لنا ، القابلة للإشارة والتعريف والتسمية بلغاتنا البشرية ، وتذكر مواقفنا نحن إزاءه عز وجل ، وأفعاله سبحانه فينا وفى حياتنا ، وتذكر نتائج وعينا لها فينا وفى حياتنا .
السعة ضد الضيق .. هذه السعة هى الفسحة والاتساع المكانى والإمكانى ، وهى الغنى والكثرة والإحاطة والقدرة والطاقة .. يُوصَف بها المكان والزمان والماديات والمعنويات ، ويتصف بها المبدأ والقاعدة والأصل والعلم والتفكير والتصور والخيال والحيلة والخطة والتدبير والصبر والمصدر والخطو والقفز والأفق والأرض والسماء والكون والعالم ، وتطلق على اللفظة والعبارة والإشارة ، وعلى الحقوق والحريات والرخص والإطلاقات . هى انفساح الحدود والمحدود أيا كانت وكان وابتعاد الضيق والتضييق والتحديد والتوقف والخطر والتحريم ، وهى انفراج الشروط والأسوار والقيود ، وهى تراجع الموانع والسدود ، وانحسار الضعف والإعياء والعجز .
وقد فسروا عبارة « والله واسع عليم » ، بأنه ـ جل وعلا ـ الكثير العطاء يسع لكل ما يُسأل ، أو المحيط بكل شىء . فى عطائه بكرمه سبحانه وتعالى الذى لا حد له ، أو بإحاطته واستغراقه لكل ما كان وما سيكون .. وهذا الفهم يبقى معظم المراد من قوله تعالى « فالله واسع عليم » ـ يبقيه مسكوتا عنه .. لأن هذه العبارة تكاد تكون مرادفة معنًى ومبنًى لقوله سبحانه : « الله أكبر » أو لقول « اللـه أكـبر كبيرًا » .. فالخالق عز وجل أوسع الواسع فى أى اتجاه وكل اتجاه .. لأنه جل شأنه خالق الكل ، بما فى ذلك السعة والضيق والغنى والفقر والكثرة والقلة والإحاطة والانحصار والقدرة والعجز والطاقة والإعياء والزمان والمكان والماديات كلها والمعنويات كلها .. ويجب أن نعى جميعا ذلك حين نتوجه إليه سبحانه وحين نخاطبه وحين ننطق باسم من أسمائه .. لأننا بغير ذلك نتعرض للغفلة .. لا عـن اسمه عز وجل ، بل عن خالقيته وسعة خالقيته التى مع تذكرها يهبط كل سعى لدينا لتحديه سبحانه وتعالى ، أو لـمخادعته فى أعيننا!!
الله سبحانه وتعالى هو المثل الأعلى ، وليس كمثله شىء .. « وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَىٰ » ( النحل 60 )، « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ » (الشورى 11 ) ، يقول تعالى : « اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ » ( البقرة 255 ) .
ليست هذه جميع الآيات التى وردت فى القرآن الحكيم بإقامة البرهان على وجود الله ووحدانيته ، ولكنها أمثلة تجمع أنواعها ونرى منها إنها قد أحاطت بأهم البراهين التى يستدل بها على وجوده سبحانه ووحدانيته : براهين الخلق والإبداع ، وبراهين القصد والنظام ، وبراهين الكمال والاستعلاء والمثل الأعلى . سبحانه وتعالى : « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ » (الشورى 11) ، « وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » (النحل 60) ، « وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ » (يوسف 76) .
الله تعالى ليس برب قبيلة ولا سلالة يؤثرها على سواها ، ولكنه « رب العالمين » ، خلق الناس جميعًا ليتعارفوا ويتفاضلوا بالتقوى ، ولا فضل بينهم لعربى على أعجمى ولا لقرشى على حبشى إلاَّ بالتقوى .
« يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » ( الحجرات 13 ) .
وهو عز وجل لا يأخذ أحدًا بذنب آخر ، ولا يحاسب أمةً بجريرة أمة سلفت ، ولا يدين العالم بغير بلاغ ونذير .
« وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ُ » ( فاطر 18 ) .
وعينا يولد مع ميلادنا وينمو مع نمونا . لكننا ننساه !.. ننساه فى بداياتنا وننسى وظيفته ومهمته وضرورته للعقل والإرادة والاختيار ، وننسى لذلك حاجته الدائمة إلى اليقظة والتيقظ وإلى مقاومة الإغفال والغفلة ، إذ منها يدخل ويتسيد فى وعينا ـ الوهم والغرور والطمع والكبرياء ، أو عكس ذلك الشعور بالصغار أو الكآبة أو التشاؤم أو القنوط أو اليأس من أنفسنا !
اليقظة أو التيقظ اعتياد يحتاج الإحساس بوجوده إلى المحافظة على تنميته ، لأنه مــن المقومات الأساسية للوعى … وعموم الآدميين يشتركون فى عموم الوعى ، لكنهم على الدوام يختلفون فى مقداره فى كل عمر ومناسبة وموقف وربما أيضاً فى كل مكان ! ودواعى اختلافهم فيه أفراداً وجماعات ـ وهى لم تنقطع ولن تنقطع ـ تزيد كثيراً عن دواعى اتفاقاتهم التى يضمن بقاءها غالباً اعتيادهم على تنفيذها .. ولعل لهذه الاختلافات أصلا فى خلقة الإنسان من أصول دفعه إلى الانتشار ومن ثمَّ إلى التنوع !
فكر فى الثقة وتأملها . لأنك ستجدها ممتدة الجذور والفروع فى كل ما نسميه المكان والزمان ، وكل ما نسميه الماضى والحاضر والمستقبل ، والقريب والبعيد ، والفـوق والتحت ، والظاهر والخفى ، والأول والآخر ، والأصل والفرع ، والسـبب والنتيجة . ستجدها فى العقل والنفس والروح والعاطفة ، وفى الإنسان والحيوان والنبات . ستجدها فى الحياة كلها فى كل حى وفى كل خبرات الحى وكل ما هو موضوع لخبراته .
تأمل ما نسميه الخطأ والشر والرذيلة ، وما نسميه العصيان والتمرد والثورة والغضب ، وما نسميه الفشل والإخفـاق والإحباط ، وما نسميه القلق والخوف والفزع والجزع والجبن والرياء والنفاق ـ تأمل صلة ذلك كله بالثقة ، تجد أنها أحوال اهتزت فيها الثقة أو اختفت من أفق الحى .
فالثقة المطلقة التى لا تفارق القلب والعقل قط ـ هى حضور المطلق على الدوام فيهما ، وهـى ما نسميه الإيمـان العميق بالله .. هذا الإيمان العميق ليس مجرد معرفة أو مجرد فهم خاليين تماماً من الثقة .. إذ يستحيل أن يكون كذلك ، لأنه يستحيل أن توجد خبرة بشرية أو خبرة حية خالية تماماً من الثقة المطلقة التى لا تفارق القلب والعقل معاً فى أية لحظة فى أى خبرة .. حتى عند التعامل مع المجهول أو مواجهته .

زر الذهاب إلى الأعلى