لغة الدفع والدفاع (أداة المحامين في أداء رسالتهم السامية)(1)
بقلم: الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
ليست اللغةُ القانونيَّةُ للمحامي مُجردَ أَداةٍ قد تتخلَّفُ عنه أو يتخلَّفُ هو عنها ، بل هي عنوانُ فِكرِه وهًوِيَّة شَخْصِه ، وبرهانُ قيمته واعتباره … فبها يُعرِّفُ عن نفسه وبها يعرفُ الناسُ مكانَه ومقامَه القانونيَّ …!!!
والأمر محكوم بقانون مُطَّرِدٍ لا يتخلَّفُ عن المحامي أو عن غيره من القانونيين ، ونصُّهُ
: “بقدر جَودَة ِأدواتك – أيها المحامي – بقدر جودة أعمالك ومخرجاتك..!!! “.
وبما أن اللغة القانونية أداة المحامي الرئيسة ، وعدته النفيسة ، ومكنته المكينة وقرينته الملازمة له ، فهي وبحق مقياس صادق لا يتخلف ، وميزان قائم لا ينحرف في التدليل على كفاءته ومهارته واعتباره وقيمته.
والضد بالضد يكون، بمعنى: أن رداءة آلاتك اللغوية تعني ضعف أعمالك القانونية ومخرجاتك الدفاعية وتقصيرك عن كشف الحقيقة ووتقاصرك في تعزيز العدالة وإنصاف موكليك وغوث مستشاريك …!!!
والسؤال الجوهري هو ….
- أ-كيف يكتسب المحامي أدواته اللغوية، ومهاراته الخطابية، وتأسيساته اللغوية الكتابية..؟؟
- ب-وكيف له أن يصقلها وأن يعززها ؛ لكي تكون لأعماله مُجهِّزة ، وفي دفوعه ومرافعاته نافذة ؟!
هذا هو بيت القصيد ، وإجابته على الإيجاز في نقطتين تضمنان للمحامي التكوين اللغوي والتمكين المهاري :
النقطة الأولى : برنامج التحصيل الذاتي للمحامين .
تعنى هذه النقطة بوجوب أخذ زمام المبادرة … ووجوب النهوض الذاتي للمحامي في سبيل تحصيل مهارات اللغة القانونية اللازمة له …. فليس عليه أن ينتظر دعما من أحد ابتداء …وليتولَّ أمر نفسه … وليأخذ ما فاته من مهارات بتحصيله وتنقيبه بشخصه ….
ولله ما قاله وسطره الإمام الشافعي في علو الهمة :
ما حكَّ جلدَك مثلُ ظفرك ******* فتولى أنت جميع أمركَ
وإذا قصدتَ لحاجةٍ *********** فاقصدْ لمعترفٍ بفضلكَ
وليعلم السادة المحامون وخاصة الصغار منهم … أن هناك واجبات ذاتية ينبغي الاضطلاع بها والقيام عليها … وهي واجبات تحصيل أساسيات اللغة العربية القانونية ومعارفها ومهاراتها …وهي للأسف الأسيف لا تدرس لهم في الجامعة …!!!
فعليهم أن ينتصبوا قائمين بالجد ، صادقين في القصد… في سبيل تحصيل تلك المهارات ، وابتداء فليكن هذا بسعيهم وكفاحهم في سبيل هذا التحصيل ، فتحصيلهم الأوليُّ يكون غالبا بجهود ذاتية واجنهادات شخصية وهذا هو الأصل ، وعلى المحامي إلا يكسل أو يتكاسل …
- فما اشتار العسل من لزم الكسل …!!!
- وما ملأ الراحة من لزم الراحة…!!!
ولله القائل :
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله **** لن تدرك المجد حتى تلعق الصبرا
وهنا تساؤلات حتمية متوجبة :
- كيف أحقق ذلك هذا التحصيل الذاتي لمعارف اللغة القانونية ومهاراتها؟!
- هل من برنامج يهديني إلى هذا الطريق ، وهل من خطة ملائمة تساعدني على هذا التحصيل ؟
- هل من دليل عملي يضع لي خطوطا عريضة وخطوات سديدة في هذا الدرب الوعر ؟!
- وهل من مكتبة لغوية قانونية تيسر لي مراجع التحصيل ومصادر التمهير ؟!
[أقول : نعم لقد طلبت منا الواجب علينا نحوك … !!! وهو حق مستوجب لك علينا ..!! وساقف مهك وقفات في سبيل الوفاء بما سالت …ولكن …دعني أعرج إلى النقطة الثانية لاستكمال الرؤية …ثم أعود إليك عاجلا]
النقطة الثانية : برنامج التمهير اللغوي للمحامين
وهنا تتجلى أدوار المؤسسات القانونية ، إذ عليها أن تساعد في تمهير أبنائها من خلال العمل على تكوينهم اللغوي وتمكينهم المهاري ، ومؤسسة المحامين ومظلتهم الجامعة لهم هي نقابة المحامين ، فعليها إذن دور كبير في تمهير أبنائها بمعارف ومهارات اللغة القانونية عموما ولغة الدفاع خصوصا . وقد سبق أن سطرنا على موقع النقابة تفصيلا موسعا لعناصر برنامج باسم :” التكوين اللغوي والتمكين المهاري ” وعرضنا كافة عناصره وخططه العملية وعلى رأسها تصور جامع بوضع مناهج متخصصة لتكوين المحامين لغويا وتمكينهم مهاريا ..
وهي تعني بالسادة المحامين تكوينا وتمكينا معرفة وتمهيرا بهدف تعزيز أدواتهم اللغوية؛ لينجزوا مهامهم القانونية الشفاهية والكتابية على الوجه الأكمل، وتم تقديمه شخصيا إلى معالي الأديب والفقيه الضليع النقيب العام للمحامين ورئيس اتحاد المحامين العرب منذ نصف عام تقريبا، ونتوقع بإذن الله أن تتبناه النقابة أو تساعد على تنفيذه أو حتى بتشجع معنويا على استكماله .
وهنا يبدر سؤال مستحق ….وما لغة الدفاع هذه التي ينبغي أن يلم المحامي بمهاراتها… ؟!!
أقول لغة الدفاع هي: إحدى لغات القانون السبعة الرئيسة ، وهي تلك اللغة التي ينبغي على المحامين الإلمام بها مهاراتٍ ومعارفَ وخبراتٍ دون أي تقصير ، لأنها لغة القانونيين في أعمالهم القانونية وفي ممارساتهم اليومية .
سؤال توضيحي : …ما لغات القانون السبع هذه ؟
لغات القانون هي جمع لمصطلح “لغة القانون” ، ولغات القانوني في تعريفها الإجرائي فيما نتبناه هي : “تلك المفردات والتراكيب اللغوية مسبوكةً في جملٍ وعباراتٍ قانونيةٍ -( بسمات خاصة وخصائص معينة )- ذات مضمون قانوني وسياق مخصوص ، بحسبانها :
1- وعاء لصياغة النص القانوني وتسمي حينئذ :”لغة النص” ، أو “لغة القانون” على سبيل التوسع والمصطلح الأول أقوى وأولى .
2-وسيلة لتفسير القانون ، وتسمى حينئذٍ ” لغة تفسير النص ”
3-أداة للتعبير عن الحكم القضائي ، فتسمى حينئذ ” لغة الحكم ” .
4-أداة ووسيلة وسبيلا للتعبير عن الدفاع والدفع ، فتسمي ” لغة الدفاع” .
5-وسيلة لمخاطبة الجمهور عموما أو بعض فئاته خصوصا، فتسمي ” لغة الخطاب القانوني”.
6-شكلا ووسيلة لتفريغ الإرادة والتعبير عن سلطانها ، فتسمى ” لغة التعاقد”.
7- أداة للتعبير عن أدوات العدالة ووسائلها ومؤسساتها فتسمى ” لغة أدوات العدالة وتقنياتها”
س هل من الممكن إعطاء نبذة عن “اللغة القانونية” التي يجب أن يلمَّ المحامون بمعارفها ومهاراتها ؟
ج : نعم، إنها اللغة الرابعة في سُلَّم لغات القانون السبع سابقة الذكر ، وتسمى كما أسلفنا بـلغة الدَّفع والدِّفاع…
وهي لغة الدفاع عن الحقوق وحمايتها ، ولغة الدفع عن مبادئ العدالة والزود عن جناب الحق ومراكزه ومتعلقاته!.
وهي لغة يُعنى بها على نحو أكثر السادة المحامون شركاء السلطة القضائية في تحقيق العدالة بنص المادة (المادة 198) من دستور 2014م.
وهي لغة قانونية تتسم بالمرونة وتمتاز بالليونة والتوسع ، وكأنما الأصل فيها الاتساع والاستبحار باحثة عن كل بيان كاشف… وبيان واقف… وحجة ظاهرة …جلية قاهرة ، مباشرة وغير مباشرة …. لكشف الحقائق ورصد الظواهر واستجماع القرائن واستقراء الدلائل لبيان الحق وكشفه وتجلية جنابه ووجهه ….!!!
ومن ثم سمي أصحابها بالمحامين من الفعل الرباعي:
حامى – يحامي …ومصدرها محاماة ، وحماء …!! وهو محامٍ اسم فاعل من حمى – يحمي …!
وقديما كانوا يقولون :”أنا لك الحماء والفداء …!!! ، ومنه سميت “الحامية”، أي ” التي تدافع وتدفع الشر عن الحدود والثغور ، ومنه سمي ” الحِمَى ” وهو ذلك المكان المنيع الذي لا يمكن اقتحامه أو سلبه …هذا على المستوى اللغوي .
وهذا المعنى اللغوي الوضعي هو جوهر مضمون المعنى القانوني الاصطلاحي ، فهم السادة القانونيون المدافعون عن الحقوق والحامون للمراكز والحريات ….
فهم حامون مدافعون ….صائلون جائلون متبحرون في كل وادٍ ونادٍ ….وصقع وشسع ….ودرب عامر أو منبت ….. لاستجلاء الحق ورصده وبيان وجوهه وكشفه ..
فينقذون به من احتمى بهم … ومن استحماهم …..ومن دفع بهم ومن استدفعهم….
فهم غوث الملهوف ، وهم ملاذ كل ذي حق ضائع …. وكل ذي استحقاق مضاع …!!!!
ولغتهم المتسعة تلك تدور بين القانون نصا وشرحا وبين لغة الحكم منطوقا ومفهوما ، وبين لغات الخصوم والموكلين …..أولئك الذين استحموا بهم واستدفعوا بجهودهم …. !!
ومن ثمَّ فإن لغتهم تجمع ما بين لغة الحسم في دقتها …. وما بين لغة النص في صرامتها ….
وما بين لغة التمثيل والتشبيه والتفريع ….وما بين لغات العلوم والفنون والصناعات ….ولغات الفئات والطبقات….. ولغات المجتمعات والإثنيات ….ولغات شتات الأعراق والمذاهب والمجامع والمحافل….. من كل ذي حضر ومدر …..وراعي بقر وجامع ثمر …… !!!!
وما ذلك إلا لكي تعينهم وتقلهم ، وتمدهم بمددها ، وتغيثهم بمُكْناتها في تحقيق غاياتهم وهي :
1- غاية التقرير للحقائق والسرد للوقائع ….
وتكشيفها وتوضيحها واستنطاقها فكأنما سامعهم والقارئ لهم يرى الواقع رأي العين !!!
2- ثم غاية التأثير
وهو ما يلي التقرير وضعا ومنطقا ، فمن أحسن التقرير …فقد ظفر بنيل التأثير ….وهو ذلك التأثير المبتغى به القضاة والمسئولين … فغاية المدافعين هي أن يُحدِثوا تأثيرا في تصوُّرات القضاة وفي مُدرَكاتهم ، إضافة لسائر المسئولين عن الفصل في الحق والدفع عن الاستحقاق … والذود عن المراكز والحريات … ،.
وصولا إلى منتهى غاياتهم وهو:
3- غاية التغيير …
حيث تغيير القناعات وتوجيه المسارات في صالح الدفع والدفاع بما يستهدفه المدافع وما يتوخى تحقيقه في قضيته وحماية موكله وقاصده والمستحمي به .
ملحوظة: لم أنس تساؤلات الخطة والبرنامج الذي يعين على تحصيل معارف ومهارات لغة القانون ولنا معه ثيل ومقال بإذن الله تعالى.